وَاتِّقَاءُ اللَّهِ اتِّقَاءُ غَضَبِهِ، فَهَذَا مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ: حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] أَيْ أَكْلُهَا، أَيْ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ بِهِ. وَطَاعَتُهُمْ لِنُوحٍ هِيَ امْتِثَالُهُمْ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ أَعْمَالٌ تُطْلَبُ الطَّاعَةُ فِيهَا، لَكِنْ لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ مِنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ مِثْلَ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، فَقَوْلُهُ: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ينْصَرف بادىء ذِي بَدْءٍ إِلَى ذُنُوبِ الْإِشْرَاكِ اعْتِقَادًا وَسُجُودًا.
وَجَزْمُ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ فِي جَوَابِ الْأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، أَيْ إِنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَهَذَا وَعْدٌ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ.
وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْإِيجَابِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَيِمَّةِ النَّحْوِ مِثْلَ الْأَخْفَشِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ جِنِّي مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ
وَجَمِيعُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ مِثْلَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَار التفتازانيّ، أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ، أَيْ ذُنُوبَ الْإِشْرَاكِ وَمَا مَعَهُ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي شَرْعِ نُوحٍ لَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَمَاثُلُ الشَّرَائِعِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ مِنْ تَفَارِيعِ الدِّينِ وَلَيْسَتْ مِنْ أُصُولِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى التَّبْعِيضِ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ دُونَ مَا يُذْنِبُونَ مِنْ بَعْدُ. وَهَذَا يَتِمُّ وَيَحْسُنُ إِذَا قَدَّرْنَا أَنَّ شَرِيعَةَ نُوحٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرَ وَمَنْهِيَّاتٍ عَمَلِيَّةٍ فَيَكُونُ ذِكْرُ مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ اقْتِصَادًا فِي الْكَلَامِ بِالْقَدْرِ الْمُحَقَّقِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهُوَ وَعْدٌ بِخَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي رَغْبَتِهِ، وَهُوَ طُولُ الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ حُبُّ الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ عَوَارِضَ وَمُكَدِّرَاتٍ. وَهَذَا نَامُوسٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ لِتَجْرِيَ أَعْمَالُ النَّاسِ عَلَى مَا يُعِينُ عَلَى حِفْظِ النَّوْعِ. قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
وَكُلٌّ يُرِيدُ الْعَيْشَ وَالْعَيْشُ حَتْفُهُ ... وَيَسْتَعْذِبُ اللَّذَّاتِ وَهْيَ سِمَامُ
وَالتَّأْخِيرُ: ضِدُّ التَّعْجِيلِ، وَقَدْ أُطْلِقَ التَّأْخِيرُ عَلَى التمديد والتوسيع فِي أَجْلِ الشَّيْءِ.