هَذَا تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لِفِعْلِ قُلْ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] الْآيَةَ.
وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِقَوْلٍ يَقُولُهُ لَهُمْ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أَوْ رَحِمَنا [الْملك: 28] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَوَّى بَيْنَ فَرْضِ إِهْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْيَائِهِمْ فِي أَنَّ أَيَّ الْحَالَيْنِ فُرِضَ لَا يُجِيرُهُمْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا بِالرَّحْمَانِ، فَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ فَيَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي ضَلَالٍ حِينَ يَرَوْنَ أَثَرَ الرَّحْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَانْتِفَاءَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَخَاصَّةً فِي الْآخِرَةِ.
وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي وَصفه الرَّحْمنُ فَهُوَ يَرْحَمُنَا، وَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا الْاسْمَ فَأَنْتُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ تُحْرَمُوا آثَارَ رَحْمَتِهِ.
وَنَحْنُ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ غَرَّكُمْ عِزُّكُمْ وَجَعَلْتُمُ الْأَصْنَامَ مُعْتَمَدَكُمْ وَوُكَلَاءَكُمْ.
وَبِهَذِهِ التَّوْطِئَةِ يَقَعُ الْإِيمَاءُ إِلَى الْجَانِبِ الْمُهْتَدِي وَالْجَانِبِ الضَّالِّ مِنْ قَوْلِهِ:
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِأَنَّهُ يظْهر بداء تَأَمُّلٍ أَنَّ الَّذِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا وَصْفَ الرَّحْمنُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى الْأَوْثَانِ.
ومَنْ مَوْصُولَة، وَمَا صدق مَنْ فَرِيقٌ مُبْهَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَين فريقين تضمنهما قَوْلُهُ:
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الْملك: 28] وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْملك: 28] ، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، أَيْ فَسَتَعْلَمُونَ اتِّضَاحَ الْفَرِيقِ الَّذِي هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تَوَكَّلْنا عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِمُخَالَفَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَكَّلُوا على أصنامهم وأشركوها فِي التَّوَكُّلِ مَعَ اللَّهِ، أَوْ نَسُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِاشْتِغَالِ فَكْرَتِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَصْنَامِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعْمُولُ آمَنَّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ: بِهِ آمَنَّا لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ وَصْفِ الْآخَرِينَ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْملك: 28] فَإِنَّ هَذَا جَوَاب آخر عَن تَمَنِّيهِمْ لَهُ الْهَلَاكَ سلك بِهِ طَرِيقَ التَّبْكِيتِ، أَي هُوَ الرحمان يُجِيرُنَا مِنْ سُوءٍ تَرُومُونَهُ لَنَا لِأَنَّنَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ