دُونَ عَدَدِ اثْنَيْنِ أَوْ زَوْجٍ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ، ألَا تَرَى أَنَّ مَقَامَ إِرَادَةِ عَدَدِ الزَّوْجِ كَانَ مُقْتَضِيًا تَثْنِيَةَ مَرَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة:
229] لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْعَدَدِ إِذْ لَفْظُ مَرَّةٍ أَكْثَرُ تَدَاوُلًا.
وَتَثْنِيَةُ كَرَّتَيْنِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَدَ الْاثْنَيْنِ الَّذِي هُوَ ضِعْفُ الْوَاحِدِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِخُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ فَإِنَّ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّكْرِيرُ وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» يُرِيدُونَ تَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِسْعَادًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُمْ: دَوَالَيِكَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «دُهْدُرَّيْنِ، سَعْدُ الْقَيْنِ» (الدُّهْدُرُّ الْبَاطِلُ، أَيْ بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، أَيْ أَتَيْتَ يَا سَعْدُ الْقَيْنِ دُهْدُرَّيْنِ وَهُوَ تَثْنِيَةُ دهدرّ الدَّال الْمُهْملَة فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ فَهَاءٌ سَاكِنَةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَضْمُومَةٌ فَرَاءٌ مُشَدَّدَةٌ) وَأَصْلُهُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ نَقَلَهَا الْعَرَبُ وَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَسَبَبُ النَّقْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَثْنِيَتُهُ مُكَنًّى بِهَا عَنْ مُضَاعَفَةِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَثَلَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ وَأَمَّا
سَعْدُ الْقَيْنِ فَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ قَيْنًا وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِصَقْلِ سُيُوفَهُمْ وَإِصْلَاحِ أَسْلِحَتَهُمْ فَكَانَ يُشِيعُ أَنَّهُ رَاحِلٌ غَدًا لِيُسْرِعَ أَهْلُ الْحَيِّ بِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُ لِلْإِصْلَاحِ فَإِذَا أَتَوْهُ بِهَا أَقَامَ وَلَمْ يَرْحَلْ فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَذِبِ فَكَانَ هَذَا الْمَثَلُ جَامِعًا لِمَثَلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُسْتَقْصَى» ، وَالْمَيْدَانِيُّ فِي «مَجْمَعِ الْأَمْثَالِ» وَأَطَالَ.
وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ التَّثْنِيَةَ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا بِالتَّثْنِيَةِ تَعْدَادَ ذِكْرِ الْاسْمِ تَعْدَادًا مُشِيرًا إِلَى التَّكْثِيرِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: وَقَعَ كَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ.
فَمَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ عَاوِدِ التَّأَمُّلَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: 31] وَإِيثَارُ فِعْلُ: يَنْقَلِبْ هُنَا دُونَ: يَرْجِعُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ ارْجِعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ نَظِيرُ إِيثَارِ كَلِمَةَ كَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَالْخَاسِئُ: الْخَائِبُ، أَيِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَا يَطْلُبُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اخْسَؤُا فِيها فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: 108] .
وَالْحَسِيرُ: الْكَلِيلُ. وَهُوَ كلل ناشىء عَنْ قُوَّةِ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ مَعَ التَّكْرِيرِ، أَيْ يَرْجِعُ الْبَصَرُ غَيْرَ وَاجِدٍ مَا أُغْرِيَ بِالْحِرْصِ عَلَى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَدَامَ التَّأَمُّلَ وَالْفَحْصَ حَتَّى عَيِيَ وَكَّلَ، أَيْ لَا تَجِدْ بَعْدَ اللَّأْيِ فُطُورًا فِي خلق الله.
[5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ