وَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ:
خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
فَإِنَّ نَفْيَ التَّفَاوُتِ يُحَقِّقُ مَعْنَى التَّطَابُقِ، أَيِ التَّمَاثُلِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ تَفَاوُتًا. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا تَرَى فِيهِنَّ وَلَا فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ فَعبر بِخلق الرحمان لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التَّفَاوُتِ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ طِبَاقًا لِأَنَّهَا من خلق الرحمان، وَلَيْسَ فِيمَا خلق الرحمان مِنْ تَفَاوَتٍ وَمِنْ ذَلِكَ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ.
وَالتَّفَاوُتُ بِوَزْنِ التَّفَاعُلِ: شِدَّةُ الْفَوْتِ، وَالْفَوْتُ: الْبُعْدُ، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فِيهِ لِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلَكِنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَيُقَالُ: تَفَوَّتَ الْأَمْرُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنْ تَفَوَّتَ، بِمَعْنَى حَصَلَ فِيهِ عَيْبٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَفاوُتٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مِنْ تَفَوُّتٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي رَسْمِ الْفَتَحَاتِ الْمُشْبَعَةِ.
وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّخَالُفِ وَانْعِدَامِ التَّنَاسُقِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ يُشَبِّهُ الْبُعْدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي تَفَاوُتًا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ أَضَاعُوا النَّظَرَ وَالْاسْتِدْلَالَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا تُشَاهِدُهُ أَبْصَارُهُمْ مِنْ نِظَامِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِكُلِّ مَنْ يُبْصِرُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق:
6] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: 11] ، وَيُرَادُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ لِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمه الرَّحْمنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.