القيمة الثانية بعد قيمة العلم والعلماء التي كانت محفوظة في مصر: هي قيمة الجهاد في سبيل الله، فالمسلمون في مصر في تلك الآونة كانوا يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش، وما سقطت قيمة الجهاد أبداً حتى في أوقات الضعف، والصراع على السلطة، ولا حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية.
وقد كانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وقد علم المسلمون في مصر أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى بالسلام الدائم، وهذا أمر مستحيل؛ لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل، وسيظل الحق والباطل موجودين إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً، إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل.
وكان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة الجهاد في سبيل الله، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، فمادام هناك جهاد فلا بد أن يكون في سبيل الله، وبسبب أن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة، كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة دائماً على توجيه النية كاملة لله عز وجل، ولذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه إرهابي أو متطرف أو أصولي، ولم تكن كلمة الجهاد سبة أبداً، وإنما كانت فضلاً عظيماً وهدفاً سامياً، وكان هناك أناس يقدرون عليه وأناس لا يقدرون عليه، والذي لا يقدر عليه لم يكن يمكنه أن يلوم على من جاهد في سبيل الله، ولذلك فالجيش المصري كان في ذلك الوقت مستعداً، وحريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوى والإعداد، ولم يفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما كانت تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي الجهاد، وإنما كان الجيش متفرغاً تماماً للتدريب العسكري، ولتحديث السلاح، وللتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وعلى تخريج القيادات الجديدة الماهرة، وعلى حماية البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وكان متدرباً على نجدة المسلمين في البقاع المختلفة، ومستعداً دائماً، وكان الشعب المصري معظماً لهذه القيمة في ذلك الوقت، وقطز رحمه الله كما رأينا كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته، يوم أن كان طفلاً، ويوم أن كان شاباً، ويوم أن كان قائداً للجيش، ويوم أن كان حاكماً لكل للبلاد، ففي كل مراحل حياته كان يضع نصب عينيه الجهاد في سبيل الله.
رأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية الجيش، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع جيرانه المسلمين، ولا شك أن هذا يحتاج إلى وقت طويل، ولا شك أنه أيضاً يحتاج إلى وقت آخر ليتم هذه العدة، لكن كثيراً ما تفرض المعارك على المسلمين فرضاً، وفي الوقت الذي لا يريدون، وقد لا يجدون وقتاً كافياً للإعداد والتمهيد، ولذلك يجب على الأمم أن تكون جاهزة دائماً فبينما قطز رحمه الله في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدود، وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور فقط للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه رحمه الله، وإذا بالحرب مفروضة عليه ما بين عشية وضحاها، فستهجم الجحافل الهمجية التترية على مصر شاء قطز والجيش والشعب أم أبوا، فهي قادمة وقريبة جداً من المعسكر المؤمن، وعما قليل سيكون اللقاء بين أكبر وأقوى دولة على الأرض في ذلك الزمن، وبين القلة المؤمنة التي تعيش في مصر.
فكيف جهز قطز رحمه الله نفسه وشعبه وجيشه وعلماءه لهذا الأمر الجلل الذي سيكون بعد قليل؟ وكيف أعد قطز رحمه الله الشعب لتلقي الصدمة المروعة للتتار؟ هذا ما سنتعرف عليه بإذن الله في المحاضرة القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يرزق أمة الإسلام رجلاً كـ قطز رحمه الله، وكأمثاله من المجاهدين الصابرين.
وأسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.