وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع منكو خان على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبر هذا نوعاً من الواقعية، وعلى سبيل المثال هيثوم ملك أرمينيا النصرانية فكر في التحالف مع التتار على أساس التبعية وكما يريد منكو خان، فملك أرمينيا يعلم قوة التتار، بل قد دمرت بلاده قبل ذلك مرتين على يد التتار، مرة في عهد جنكيز خان ثم في عهد أوكيتاي، وكذلك يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال بدولة التتار القوية، فمساحة أرمينيا كلها لا تزيد على 30 ألف كيلو متر مربع، يعني: مثل مساحة محافظتين من محافظات مصر، وفوق ذلك فملك أرمينيا يعلم أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، فهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، فسيدخل التتار العراق وأرمينيا وساعتها سيفقد كل شيء بلا ثمن.
كل هذا دفع هيثوم إلى أن يذهب بنفسه لمقابلة منكو خان في قراقورم عاصمة المغول، فلم يبعث سفارة مثل ملوك أوروبا، ومنكو خان كان غضبان نتيجة فشل السفارة الصليبية الأولى، فبدأ يتعلم طرق السياسة والاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فأقام احتفالاً كبيراً واستقبالاً رسمياً مهيباً لـ هيثوم ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع وإن كانت كل بنود الاتفاق لا تقوم إلا بين سيد وتابع لا ملك وملك، وإنما كان كل واحد منها يمثل على الثاني تمثيلية مكشوفة لغرض السياسة، وبعد الاستقبال الحافل الكبير لملك أرمينيا قدم ملك أرمينيا نفسه على أنه من رعايا منكو خان، فأعطاه منكو خان وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة؛ يشتري بذلك ولاءه وتبعيته، ولم يقل له: افعل كذا وكذا، ولكن فخمه وعظمه وأعطاه، وكان مما أعطاه: أولاً: ضمان سلامة ممتلكات الملك هيثوم الشخصية، وهذه أهم شيء عند هيثوم.
ثانياً: إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب، فالتتار كان يفرضون الضرائب على كل شيء.
ثالثاً: مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون من الأرمن في حروبهم معهم، وقد كان بين الأرمن وبين السلاجقة في تركيا تاريخ طويل من الحروب، فوعده منكو خان هذه المدن إليه.
رابعاً: اعتبار ملك أرمينيا كبير مستشاري الخاقان الكبير منكو خان فيما يختص بشئون غرب آسيا، وأعطاه مركزاً ومكانة.
وكان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني الضعيف الذي لا تقارن قوته بأي صورة من الصور بقوة التتار لعدة أسباب، وهي: أولاً: للاستفادة من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين، فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة جداً، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، فلاشك أن المعلومات التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في احتلال بلاد المسلمين، وتذكر ما حدث بين أمريكا وإنجلترا من تحالف، فأمريكا تحالفت مع إنجلترا الضعيفة جداً مقارنة بأمريكا، ولكنها عندها خبرة كبيرة جداً في أرض المسلمين، وبالذات في أرض العراق وأفغانستان، فإنجلترا قبل ذلك احتلت أفغانستان والعراق.
ثانياً: حاجة التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، وإذا كان هؤلاء الأعوان من أهل البلد أو مجاورين له فهذا يعطيه قدرة أكبر على إدارة هذه البلاد وعلى تهدئة الشعوب في هذه المناطق.
ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار باب المعاملات من جديد مع النصارى، فهو خسر قبل ذلك معاهداته مع النصارى في غرب أوروبا، والآن قام بمعاهدات مع ملك أرمينيا، والأرمن كاثوليك مثل غرب أوروبا، فمن الممكن أن يكون ملك أرمينيا رسولاً بين التتار وبين ملوك غرب أوروبا، فتاريخ التتار مع النصارى في أوروبا تاريخ أسود، فآلاف وملايين النصارى ذبحوا على يد التتار، ومنكو خان يريد إصلاح العلاقات من جديد من أجل أن يسقط الخلافة العباسية إسقاطاً كاملاً.
رابعاً: إن الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي كبير عند المسلمين، فالحرب مع التتار شيء ومع قوات التحالف شيء آخر، ومع أن القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً بالمرة بالنسبة إلى التتار، إلا أن كلمة التحالف لها وقع خاص جداً على قلوب الناس، ومن أجل ذلك تجد الدول الكبيرة تتحالف مع دول لا قيمة لها؛ حتى يسموا جيشهم جيش التحالف.
خامساً وأخيراً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة في المناطق الملتهبة، فيحارب فيها الأرمن ويكون ضحاياها من الأرمن وليس من التتار، وهذا كما بدأت إنجلترا تسيطر على منطقة البصرة وما حولها، والناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار وبين الأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً مطل