نظر كتبغانوين إلى القوات الإسلامية فوجدها قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة من بدايتها، صحيح أنهم كانوا في هيئة حسنة، ومنظرهم مهيب عند كتبغا وعند جيش التتار، ولكن أعدادهم قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة بكاملها، فدخل بجل جيشه أو كله إلى سهل عين جالوت.
وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله.
وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته، وانهمرت جموع التتار الرهيبة، وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين، وكانت أعداداً هائلة من الفرسان ينهبون الأرض نهباً في اتجاه القوات الإسلامية.
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله فكان يقف في رباطة جأش عجيبة, ووقف معه الأبطال المسلمون في ثبات ولم يتحركوا، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة وأمناً واطمئناناً، فكانوا يرون جحافل التتار الضخمة لا تعدو أن تكون حفنة قليلة من الرجال، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:44].
حتى إذا اقتربت جموع التتار من مقدمة الجيش الإسلامي أعطى القائد المحنك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله إشارة البدء لرجاله، فانطلقوا في شجاعة نادرة باتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار.
وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً بمعنى الكلمة، وارتفعت سحب الغبار الكثيف في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الفلسطينيين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وارتفع صليل السيوف وغطى على كل شيء.
احتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يرونه أبداً في حياتهم قبل ذلك.
وكانت هذه من أكبر المواقع في تاريخ الأرض، وكانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيار أفرادها واحداً واحداً، حتى تستطيع أن تقف هذه الوقفة الجسورة أمام هذه الجحافل من التتار، وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، فلما رأى كتبغانوين القوات ثابتة ضغط بصورة أكبر وبدأ يستخدم كل الطاقة، وأدخل كل الجنود إلى داخل السهل ولم يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري.
كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة.
ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور.
ومع أن الفجوة كانت هائلة في العدد والعدة بين الفريقين، إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات.
وكان هم المسلمين إلى هذه اللحظة هو استنزاف القوات التترية في حرب مرهقة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم.
هذا كان الجزء الأول من الخطة الإسلامية، الصبر قدر المستطاع من الجيش حتى تستنزف الطاقات التترية عن آخرها.