بعد أن دمّر التتار مدينة بخارى العظيمة وأهلكوا أهلها وأحرقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة سمرقند وهي في دولة أوزباكستان الحالية، مثل بخارى واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قُتل.
وأما لماذا يصطحبون الأسرى معهم من بخارى إلى سمرقند؟ فقد كان هناك أكثر من هدف لاصطحاب الأسرى من بخارى إلى سمرقند، وكانت هذه سنة من سنن التتار، ففي كل حرب كانوا يأخذون معهم الأسرى، لعدة أسباب.
أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسرى علماً من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أن المجموع كله من التتار، فتكثر أعداهم جداً في أعين أعدائهم بشكل رهيب فلا يعتقدون مطلقاً أنهم يقدرون على قتالهم فيستسلمون، فتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونه.
ثانياً: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم، ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه، فكان الأسرى المسلمون يقاتلون المسلمين مع التتار كرهاً.
ثالثاً: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع، ويختبئون خلفهم، فإذا أطلق المسلمون السهام على جيش التتار أصابت الأسرى المسلمين، والتتار يطلقون سهامهم من خلف صفوف الأسرى المسلمين.
رابعاً: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
خامساً: كانوا يبادلون بهم الأسرى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وإن كان هذا قليلاً؛ لقلة الهزائم في جيش التتار.
وكانت سمرقند من حواضر الإسلام العظيمة جداً، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة وأسوار عالية، ولهذه القيمة الاستراتيجية والاقتصادية الكبيرة ترك فيها محمد بن خوارزم شاه زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها فوق أهلها، فأهل سمرقند يقدرون بمئات الآلاف دون مبالغة.
ولما وصل جنكيز خان إلى مدينة سمرقند حاصرها من كل الاتجاهات، ولم يخرج الجيش الخوارزمي النظامي للدفاع عن البلد، فقد دب الرعب في قلوبهم وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل بالخروج للدفاع عنهم، فقرر بعض الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، فخرج سبعون ألفاً من أهل الجلد من سمرقند، وخرج معهم العلماء والفقهاء على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم دراية عسكرية تمكنهم من القتال، ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد، وعندما رأى التتار أهل سمرقند يخرجون لهم قاموا بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة محاولين سحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم، فبدءوا يتراجعون تدريجياً بعيداً عن سمرقند، وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطة التتار، فبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم، وتقدموا خلف الجيش التتري، حتى إذا ابتعد المسلمون عن المدينة بصورة كبيرة أحاط بهم جيش التتار، وبدءوا عملية تصفية بشعة لأفضل رجال سمرقند من المجاهدين والعلماء والفقهاء، واستشهد في هذا اللقاء غير المتكافئ السبعون ألفاً جميعاً الذين خرجوا، وفقد المسلمون في سمرقند سبعين ألفاً من رجالهم دفعة واحدة، ولقد كانت مأساة المسلمين عظيمة عندما فقدوا 70 رجلاً في غزوة أحد، وعندما فقدوا 70 رجلاً في بئر معونة كانت المصيبة كبيرة، وظل صلى الله عليه وسلم يدعو على أولئك الذين قتلوا هؤلاء المسلمين شهراً كاملاً، وهنا سبعون ألف مسلم في لحظات فنوا جميعاً، وقد كانوا أفضل أهل سمرقند، وليست مفاجأة أن يُقتل سبعون ألف مسلم على يد التتار، وهذا أمر متوقع، ودفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم، فدولة التتار منذ 14 سنة تتوسع تدريجياً حولهم وتقترب تدريجياً من حدود بلادهم، فأين الاستعداد لمثل ذلك اليوم؟ وبعد إفناء المجاهدين المسلمين عاد التتار لحصار سمرقند، وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً، فقد قرر أن يطلب الأمان من التتار على أن يفتح لهم أبواب المدينة، وهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العقود ولا العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى عنهم ببعيد، ولكنهم تمسكوا بالحياة إلى آخر درجة، مثل ما فعل الفيلق الخامس من جيش العراق مع الأمريكان في الحرب الأخيرة، فقد سلموا العراق ببساطة.
فوافق التتار على إعطاء الأمان، وقد عزموا عزماً أكيداً على النقض والمخالفة، ولم يقدر عامة الناس وجمهورهم على منع الجيش، لأنه كان كالأسد ضد شعبه وكالنعامة ضد أعدائه، ففتحوا الأبواب للتتار، وخرجوا مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيّركم إلى مأمنكم،