الطريق الثاني الذي اتخذه قطز رحمه الله: هو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها يعيش على الأرض، فارتفع بنفوس الناس من مطامعهم المادية البحتة إلى آفاق عالية جداً، وكان يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله عز وجل وبنصرة الدين.
وإذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه، فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين، وهذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز، تعظيم الغاية والهدف إلى أقصى درجة، فيصبح جهادنا واستعدادنا وحركتنا نوعاً من العبادة لله رب العالمين فـ قطز لم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بقومية مصرية أو عربية أو غيرها، ولم يحفزهم حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت، بل إنه حفزهم على الموت.
وشتان يا إخواني! بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على ألا يموت.
واسمعوا ما قال قطز للأمراء المسلمين في هذا الاجتماع الخطير، قال لهم في صراحة: (يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه).
أي: أنا لن أحاسبكم أو أراقبكم، إنما الذي سيراقبكم ويحاسبكم هو الله عز وجل.
ثم قال: وخطيئة حريم المسلمين -فهو يحرك في قلوبهم النخوة- في رقاب المتأخرين عن القتال).
وهذا كلام في منتهى الدقة والروعة، فالقضية بوضوح قضية إيمان، وإذا علمت أن الله عز وجل مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره منافقاً على الخروج معه للقتال أبداً، بل كان يترك الأمر على السعة، فالذي يريد يخرج يخرج، والذي لا يريد أن يخرج لا يخرج، بل في غزوة تبوك ذكر له أن رجلاً تخلف، فقال: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه).
وهكذا فعل قطز رحمه الله، فمن أراد أن يخرج للجهاد في سبيل الله فليفعل، ومن أراد النكوص على عقبيه والركون إلى الدنيا، فليعلم أن الله مطلع عليه، وليعلم أن حرمات المسلمين والمسلمات التي تنتهك في رقبته.
وهنا شيء مهم جداً، ولا يخفى علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز رحمه الله من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع، حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد، وهو استغلال المنصب إلى أقصى درجة لزيادة الثروة من الحلال وغير الحلال على السواء، ولم يعد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب، وليس سيداً عليهم أبداً، وأن له حقوقاً كما أن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله عز وجل ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم ودينار.
فكانت هذه الكلمات من قطز رحمه الله إلى كل وزير وأمير تهدف إلى أيقاظ الضمير وإحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخطب في الأمراء وهو يبكي ويقول: يا أمراء المسلمين! من للإسلام إن لم نكن نحن.
وهذه كلمة رائعة هائلة، تصلح أن تكون منهجاً للحياة، إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أمة الإسلام أبداً، فأحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين، وينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، وقليلاً ما يفكر هو في التحرك، بل كثيراً ما يقوم بعملية تحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، وهو لا يتحرك، وينتظر أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرجوا من بيته هو شخصياً، فلماذا لا يكون هو صلاح الدين الأيوبي أو يوسف بن تاشفين أو نور الدين محمود الشهيد؟ وهؤلاء لا يزيدون ولا يقلون عن البشر شيئاً، إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل، وساروا في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن معنا كتاب الله عز وجل ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فلماذا ننتظر أن يكون التغيير من غيرنا وليس منا، فمن للإسلام إن لم نكن نحن؟ وقعت هذه الكلمات في قلوب الأمراء فضجوا جميعاً بالبكاء، وخشعت قلوبهم، ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله، فقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، وقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن.
وهكذا نجح قطز في خطوة هي من أصعب وأعظم خطوات حياته، ومن أصعب القرارات فعلاً، فهو قرار الجهاد، وأعلنت مصر الحرب على التتار، فكان هذا القرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً، وهو قرار لا ينفع أن يرجع فيه القائد أو الجيش أو الشعب.