أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه هي المحاضرة التاسعة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
في المحاضرة السابقة تحدثنا عن صعود قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم في مصر، وعن خطواته في إعادة بناء الأمة وتأهيلها ليوم اللقاء مع التتار، وكيف أنه اهتم رحمه الله بالاستقرار الداخلي، ووحد هدف الأمة، وعفا عن المماليك البحرية، ووحد بينهم وبين المماليك المعزية، وراسل أمراء الشام، وحاول قدر الاستطاعة ضمهم إلى قواته، وانظم إليه بالفعل جيش الناصر الأيوبي وأمير حماة، وزادت بذلك قوة جيشه بشكل كبير.
وتحدثنا أيضاً عن شعب مصر في ذلك الوقت، وكيف أنه كان يعاني من أزمة اقتصادية ومشاكل اجتماعية، ومع ذلك كان الشعب يعظم العلماء ويجلهم، ويحب الدين ويحترمه، ويعرف قيمة الجهاد في سبيل الله ولا يستغربه أبداً، بل يعتقد أنه حل أساسي، وأحياناً يعتبره حلاً وحيداً في كثير من الأزمات التي تمر بالأمة.
وبينما قطز رحمه الله في إعداده وتجهيزه جاءته أربعة من رسل التتار برسالة عجيبة من هولاكو يعلن فيها الحرب عليه إن فكر في أي مقاومة، وكانت الرسالة تحمل تهديداً ووعيداً وإرهاباً، يقول فيها هولاكو: (باسم إله السماء الذي ملكنا أرضه وسلطنا على خلقه)، وهو في بداية الرسالة كأنه يعترف بأن الله عز وجل هو الذي ملكه على الخلق، وأنه يطيع الله عز وجل.
ثم يقول: (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك)، فهو يريد أن يحقر من شأن قطز رحمه الله، فهو يقول له: إنه من جنس المماليك، (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها وباديها وحاضرها وأكابرها وأصاغرها)، يعني: قطز الذي يملك كل شيء في مصر يجب أن يعلم ذلك.
ثم يقول: (أنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع).
ولا ندري من أين أتى بهذه الكلمة: ودعاؤكم علينا لا يسمع.
ثم يقول: (لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رب السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فهو يستشهد بآيات من كتاب الله عز وجل، وكأنه يؤمن به.
وكان الذي يكتب له هذه الرسائل الأدباء المسلمون الذين اشتراهم هولاكو عليه لعنة الله بالمال، وباعوا دينهم وأوطانهم بهذا المال، وكتبوا مثل هذه الرسائل المرعبة.
ثم يقول هولاكو: (فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم).
وانتهت الرسالة العجيبة، ولم تحمل أي نوع من أنواع الدبلوماسية، فقد كانت إعلاناً صريحاً بالحرب أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى: أن يكون دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.