فكر جنكيز خان بالذهاب إلى أفغانستان وأوزباكستان قبل الذهاب إلى العراق؛ لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولا بد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، وهذه المنطقة تعرف اليوم بالقوقاز، وكانت غنية جداً بثرواتها الزراعية والاقتصادية في ذلك الوقت، والآن في القرن الخامس عشر الهجري ظهر فيها أيضاً البترول، حتى أصبحت من أغنى مناطق العالم بالبترول، بل يقال: إن المخزون الذي فيها أعلى من المخزون الذي في الخليج، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة إلى أن جنكيز خان لا يستطيع تكتيكياً أو إستراتيجياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه، أو تقطع عليه خطوط الإمداد، فمن أجل كل هذا فكر جنكيز خان أولاً خوض حروب متتالية مع المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف بالدولة الخوارزمية، فقد كانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية، ولا مانع عندهم من نقض العهد وتمزيق كل الاتفاقيات السابقة، وهي سنة في أهل الباطل، قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
وحتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، فلا بد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، فهو الآن في حالة اتفاق، ويريد أن يدعي أن الاتفاقيات بين الدولتين لم تعد سارية، فبحث جنكيز خان عن سبب مناسب فلم يجد، ثم حدث أمر مفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب، ولم يكن هذا السبب من إعداد جنكيز خان، ولكن لا مانع من استغلاله، وتقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير خطوات أخرى، فهو في كل الأحوال سيدخل أرض المسلمين وينقض العهد معهم، وليس في ذلك خلاف، ولكنه يريد سبباً منطقياً أمام المسلمين والتتار والعالم أجمع.
وكان هذا الأمر أن مجموعة من تجار المغول ذهبوا إلى مدينة أوترار الإسلامية في شرق مملكة خوارزم شاه، وفي حدود الدولة التترية، فأمسكهم حاكم المدينة المسلم وقتلهم، وقد اختلف المؤرخون في سبب قتلهم.
فمنهم من يقول: إنهم كانوا جواسيس أرسلهم جنكيز خان للتجسس على الدولة الإسلامية واستفزازها.
ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً من حاكم مدينة أوترار؛ رداً على عمليات السلب والنهب التي قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة.
ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً من حاكم أوترار المسلمة؛ لاستثارة التتار للحرب؛ ليدخل خوارزم شاه منطقة تركستان التي كانت في أملاك التتار في ذلك الوقت.
وهذا الرأي مستبعد؛ لأن محمد بن خوارزم شاه لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار، وكل ما كان يريده هو بقاء كل فريق في مملكته دون تعد على الآخر، وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيوشهم، أو أنه لم يكن يدري عن قواتهم شيئاً، فهم الملاصقون له، وقد ذاع صيت جنكيز خان في كل مكان في ذلك الوقت.
ومن المؤرخين من يقول: إنما أرسل جنكيز خان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين؛ ليقتلوا تجار التتار هناك؛ حتى يكون ذلك سبباً لغزو بلاد المسلمين.
ومنهم من قال: إن حاكم أوترار طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها.
وكل هذه الاحتمالات واردة، قتل التجار أو الجواسيس.
فلما وصل النبأ إلى جنكيز خان أرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه زعيم دولة خوارزم الكبرى يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة، فهو لن يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى وبشريعة أخرى، وقال له: إنه سيحاكمهم في بلاده، فإن ثبت أنهم قتلوا التتار، عاقبهم في بلادهم حسب نصوص الشريعة الإسلامية.
وكان هذا الكلام منطقياً ومقبولاً جداً في كل أعراف أهل الأرض وبقاعهم، فأي بلد يحدث في داخله جريمة، فإن المجرمين يعاقبون على جريمتهم بقانون هذا البلد، ولكن جنكيز خان لم يكن يرغب بالاقتناع بهذا الكلام، فليس المجال مجال الحجة والبرهان والدليل، وإنما كان تخطيطاً مسبقاً لغزو العالم الإسلامي، ولن يعطل هذا التخطيط حجة أو برهان أو دليل، فهو إنما كان فقط يبحث عن علة مناسبة لدخول الأراضي الإسلامية واحتلالها، وقد وجد في قتل التجار هذه العلة التي كان يبحث عنها.