لم تتوقف الاعتراضات على الملكة الجديدة، ولم تنعم بيوم واحد فيه راحة، وخافت الملكة الطموحة على نفسها، وبالذات في هذه الأيام، وكان التغيير في هذه الأيام بالسيف بالذبح لا بالخلع أبداً، ومن هنا قررت الملكة شجرة الدر بسرعة أن تتنازل عن الحكم لرجل تحكم البلاد من خلاله، فحب السلطان يجري في دمها ولا تستطيع أن تتركه، فهي تشعر بإمكانياتها العقلية والإدارية والقيادية، وهي إمكانيات هائلة فعلاً، ففكرت بأن تمسك بالعصا من نصفها كما يقولون، فتحكم باطناً وتتنحى ظاهراً، ففكرت في لعبة سياسية خطيرة، وهي أن تتزوج أحد الرجال، ثم تتنازل له عن الحكم؛ ليكون هو في الصورة، ثم تحكم هي البلاد بعد ذلك من خلاله أو من خلف الستار، كما يحدث كثيراً في أوساط السياسة، فكم من الحكام يحكمون وليس لهم من الحكم إلا الاسم، وكم من السلاطين ليس لهم من السلطة نصيب، وما أكثر الرجال الذين سيقبلون بهذا الوضع نظير أن يبقى أطول فترة ممكنة في كرسي الحكم الوثير، وكرسي الحكم مريح جداً، والذي يجلس فيه لا يحب أن يقوم منه.
وشجرة الدر لا تريد أن تتزوج رجلاً حقيقة، وإنما تريد فقط صورة رجل؛ لأنه لو كان قوياً لحكم هو ولتمسك بمقاليد الأمور في البلاد، فهي تريد رجلاً ضعيفاً، وليس من عائلة قوية أصيلة، حتى لا تؤثر عليه عائلته، فيخرج الحكم من يد الملكة الطموحة، ويا حبذا لو كان هذا الرجل السعيد الحظ من المماليك! حتى تضمن بذلك ولاءهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولو كان هذا الرجل هو السند الشرعي للحكم، فالمماليك هم السند الفعلي والعسكري والواقعي للحكم.
فوضعت شجرة الدر كل هذه الحسابات في ذهنها، ثم اختارت رجلاً من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات والهدوء النسبي، وكانت هذه الصفات حميدة في نظر شجرة الدر، فوجدت في هذا الرجل ضالتها، وهذا الرجل هو عز الدين أيبك التركماني الصالحي، يعني: من المماليك الصالحية البحرية، من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم تختر رجلاً من المماليك الأقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس أو غيرهما؛ وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع، وبالفعل تزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم رسمياً، وذلك بعد أن حكمت البلاد (80) يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الآخرة من سنة (648) من الهجرة.
وفي غضون سنة واحدة جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك، الملك الصالح أيوب رحمه الله، ثم مات، فتولى توران شاه ابنه، ثم قتل، فتولت شجرة الدر، ثم تنازلت، فتولى عز الدين أيبك التركماني الصالحي , فقد كانت سنة فتن وانقلابات ومؤامرات ومكائد، وتلقب عز الدين أيبك بـ الملك المعز، وأخذت له البيعة في مصر.
وكأن هذه الأحداث قد تمت بكاملها كنوع من التمهيد؛ لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم في مصر، فقد قبل الشعب المصري بالوضع الجديد، فهو وإن لم يكن مثالياً في رأيهم، إلا أنه أفضل حالاً من تولي امرأة، وعز الدين أيبك كان مملوكاً، ولكنه أعتق، ومع ذلك فقد كان يعتبر مملوكاً، لكن أفضل من المرأة، كما أن البديل من الأيوبيين في مصر غير موجود، وكذلك غير موجود في الشام، ونحن رأينا أمراء الأيوبيين في الشام في منتهى الضعف، فقد كانوا على شاكلة الناصر يوسف الأيوبي والأشرف الأيوبي والملك السعيد حسن بن عبد العزيز وغيرهم، ولم يكن فيهم ضعف فقط، بل ضعف وسوء خلق وعمالة وخيانة وما إلى ذلك، فالشعب المصري في ذلك الوقت قبل بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني , وبدأت الأمور تهدأ في مصر.