صفات توران شاه في الحكم وقصة مقتله

مع هذا الانتصار المبهر للمسلمين على الصليبيين إلا أن توران شاه لم يكن يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة الإسلامية، فـ توران شاه كان شخصية عابسة متصفاً بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وقد ركبه الغرور بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فبدأ يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة، حتى دخلها خوف كبير منه، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، فقد بعثت له من أجل أن يأتي ويستلم مقاليد الحكم في مصر، مع أن الوضع كان في اضطراب شديد جداً، فجاء إلى مصر ووجد الجيش منتصراً بالفعل، ومع ذلك بدأ يتنكر لها، ولكبار أمراء المماليك أمراء الجيش، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، فلم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه بالمنصورة، ثم في فارسكور، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا التركي، وبدأ واضحاً للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر، وبالذات في الجيش المصري، وكان كل هذا في غضون الثلاثة الأشهر الأولى له في مصر، وبعد موقعة فارسكور مباشرة، فخافت شجرة الدر على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وبالذات فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وقد كان المماليك البحرية يكنون لـ شجرة الدر كل الاحترام والولاء؛ لأنها زوجة الأستاذ الملك الصالح رحمه الله، وعلاقة الأستاذية هذه كانت أقوى من علاقة الأب بابنه أحياناً، وكانت تبقى آثار هذه العلاقة حتى بعد موت السيد الذي اشتراهم أو الملك الذي رباهم، ولما ذكرت شجرة الدر هذه الوساوس إلى المماليك البحرية، وجدت عندهم نفس الوساوس، فقد خافوا من توران شاه، وتوقعوا أن يقصيهم توران شاه عن الحكم والسلطة، بل وقد يتعرض لهم بالقتل، فأجمعوا على سرعة التخلص من توران شاه وقتله.

والمماليك بصفة عامة، كان عندهم تساهل كبير جداً في الدماء، كانوا يقتلون بالشك، فإذا شكوا في أحد أنه ينوي أن يغدر، فإن ذلك يعتبر عندهم مبرراً كافياً للقتل، وكان هذا التساهل في الدماء عاماً في حياة المماليك، وفي كل فترات دولتهم تقريباً، وكم من أمرائهم وخصومهم بل ومن عظمائهم من قُتل بسبب الشك في نواياه، وقد يكون هذا راجعاً إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فقد كانت فيهم قسوة نفسية وشدة وعدم تمييز للأمور، وكانوا يحبون حسم كل الأمور بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم، والشيء الذي لا يفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا ينشئون على التربية الدينية والفقهية، ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزل أو احتمال قتل.

المهم أنهم في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية، لم يكن يستهجن عندهم مطلقاً أمر ذلك القتل، بل إن القاتل أحياناً يفخر أمام الناس بقتله للمقتول، بل وقد يصعد إلى كرسي الحكم وهو مرفوع الرأس لا يشعر بأي تأنيب ضمير، وكأن الدماء التي تسيل هذه ليس لها وزن عند الله سبحانه وتعالى ولا عند الناس.

وهذا ليس دفاعاً عن توران شاه أو غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابسة وسيئة وكريهة، ولكن العقوبات في الإسلام لها مقاييس معينة ومقادير خاصة جداً، وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السماوات والأرض، فالسارق وإن كان مجرماً سيئاً كريهاً، إلا أنه لا يقتل لمجرد السرقة، بل تقطع يده، والزاني غير المحصن وإن كان قد قام بعمل شنيع مشين، إلا أنه يجلد ولا يرجم وهكذا، وليست وساوس المماليك أو غيرهم مبرراً شرعياً كافياً للقتل، بل قد تكون مبرراً شرعياً للعزل أو الاعتراض أو الحبس أو ما إلى ذلك، لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جداً.

إذاً: اتفقت شجرة الدر مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل توران شاه، وتمت الجريمة في (27) محرم سنة (648) هجرية بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا في تركيا واعتلائه عرش مصر، وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي يحكم، بل لكي يدفن.

وبمقتل توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي رحمه الله انتهى حكم الأيوبيين تماماً من مصر، وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015