قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ) : الْوَاوُ دَخَلَتْ هُنَا لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اسْتَوْعَبَتْ أَقْسَامَ النَّاسِ ; فَالْآيَاتُ الْأُوَلُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُخْلِصِينَ فِي الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) تَضَمَّنَ ذِكْرَ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَأَبْطَنَهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ، وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ، فَمِنْ هُنَا دَخَلَتِ الْوَاوُ لِتُبَيِّنَ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَمِنْ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَفُتِحَتْ نُونُهَا وَلَمْ تُكْسَرْ ; لِئَلَّا تَتَوَالَى الْكَسْرَتَانِ.
وَأَصْلُ النَّاسِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أُنَاسٌ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَجُعِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَالْعِوَضِ مِنْهَا، فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ النَّاسُ إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ أُنَاسٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَالْأَلِفُ فِي النَّاسِ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأُنْسِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ فِي الْكَلِمَةِ حَذْفٌ، وَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَهِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ نَوْسًا، إِذَا تَحَرَّكَ وَقَالُوا فِي تَصْغِيرِهِ نُوَيْسٌ.
قَوْلُهُ: (مَنْ يَقُولُ) (مَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ أَوْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِالْجَارِّ قَبْلَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَ (مَنْ) هُنَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَيَقُولُ صِفَةٌ لَهَا وَيَضْعُفُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي ; لِأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ وَالْمَعْنَى هَاهُنَا عَلَى الْإِيهَامِ وَالتَّقْدِيرِ، وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يَقُولُ.
وَ (مَنْ) مُوَحَّدَةُ اللَّفْظِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْنِيثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَيْهَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهَا، وَأَنْ يُثَنَّى وَيُجْمَعَ وَيُؤَنَّثَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَالضَّمِيرُ فِي يَقُولُ مُفْرَدٌ، وَفِي آمَنَّا وَمَا هُمْ جَمْعٌ.