قَالَ: فَمَا أَقَامَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ عَاقِلٌ!
صَعِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى يَقِينٍ فَأَنْتُمْ حَمْقَى، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فَأَنْتُمْ هَلْكَى. ثُمَّ نَزَلَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ فَقَالَ: مَا بِكَ؟ قَالَ: أَمْرَاضٌ وَأَعْلالٌ. قَالَ: لَتَصْدُقَنِّي قَالَ: ذُقْتُ حَلاوَةَ الدُّنْيَا مُرًّا
(وَهَبْنِي كَتَمْتُ الْحَقَّ إِذْ قُلْتُ غَيْرَهُ ... أَتَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعُقُولِ السَّرَائِرُ)
(أَيَا ذَاكَ إِنَّ السِّرَّ فِي الْوَجْهِ نَاطِقٌ ... وَإِنَّ ضَمِيرَ الْقَلْبِ فِي الْعَيْنِ ظَاهِرُ)
قَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ: كَانَ عَطَاءٌ السُّلَمِيُّ قَدِ اجْتَهَدَ حَتَّى انْقَطَعَ فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: إِنِّي مُكْرِمُكَ بِكَرَامَةٍ فَلا تَرُدَّ كَرَامَتِي. فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ مَعَ وَلَدِي وَقُلْتُ لَهُ لا تَبْرَحْ حَتَّى يَشْرَبَهَا. فَجَاءَ فَقَالَ قَدْ شَرِبَهَا. فَبَعَثْتُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِثْلَهَا فَجَاءَ فَقَالَ مَا شَرِبَهَا. فَأَتَيْتُ إِلَيْهِ فَلُمْتُهُ وَقُلْتُ: رَدَدْتَ عَلَيَّ كَرَامَتِي وَهَذَا يُقَوِّيكَ عَلَى الْعِبَادَةِ. فَقَالَ: يَا أَبَا بِشْرٍ لَقَدْ شَرِبْتُهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وَاجْتَهَدْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَمْ أَقْدِرْ، كُلَّمَا هَمَمْتُ بِشُرْبِهَا ذَكَرْتُ قوله تعالى: " وطعاما ذا غصة " قَالَ: فَقُلْتُ أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي وَادٍ!
(أَطَلْتَ وَعَنَّفْتَنِي يَا عَذُولُ ... بَلَيْتَ فَدَعْنِي حَدِيثِي طَوِيلُ)
(هَوَايَ هَوَى بَاطِنٍ ظَاهِرٌ ... قَدِيمٌ حَدِيثٌ لَطِيفٌ جَلِيلُ)
(أَلا مَا لِذَا اللَّيْلِ لا يَنْقَضِي ... كَذَا لَيْلُ كُلِّ مُحِبٍّ طَوِيلُ)
(أَبِيتُ أُسَاهِرُ نَجْمَ الدُّجَى ... إِلَى الصُّبْحِ وَحْدِي وَدَمْعِي يَسِيلُ)
للَّهِ دَرُّ تِلْكَ الْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ، أَنْوَارُهَا فِي ظَلامِ الدُّجَى ظَاهِرَةٌ، رَفَضَتْ حِلْيَةَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ فَاخِرَةً، كَمْ تَرَكَتْ شَهْوَةً وَهِيَ عَلَيْهَا قَادِرَةٌ، بَاتَتْ عُيُونُهَا وَالنَّاسُ نِيَامٌ سَاهِرَةً، زَفَرَاتُ الْخَوْفِ تُثِيرُ سَحَائِبَ الأَجْفَانِ الْمَاطِرَةَ، يَنْدُبُونَ عَلَى الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً، كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ يَا بَائِعَ الآخِرَةِ، شَيْبٌ وَعَيْبٌ أمثال