في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث. فتوفرت فيه الرغبات فما زال لهم من لدن رسول الله إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إليه المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً، في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم على تحصيله وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة رضي الله عنهم، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط واتسع الخرق، وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخائف يغفل، والقلم يحفظ، فمارسوا الدفاتر، وسايروا المحابر، وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوقها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة، فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمة وأحبار ملة.
وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خوف اندراسه. كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن، أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: "أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء". وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى الآفاق: "انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه". وعلقه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، فيستفاد