والثاني - وهو تأويل أبي العباس -: أن هذه الآية نسخت تلاوتها في حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الصحابة قريبي العهد بتلاوتها، وكانت ألسنتهم جارية على تلاوتها كما كانوا قبل النسخ، حتى عودوا ألسنتهم تركها، فاعتادته ألسنتهم.
ومم يدل على ما ذكرناه: حديث سهلة بنت سهيل، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن ترضع سالمًا خمسًا ليجوز دخوله عليها؛ لأن زوجها حذيفة كان قد تبناه، ثم حرم التبني، وشق عليهم ترك دخوله، فنسخ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محل الرضاع في الكبير بقوله: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» ، وبقي عدد الرضاع.
إذا ثبت أن التحريم يتعلق بخمس رضعات.. فمن شرط الخمس أن تكون متفرقات. فإذا التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، فأقل أو أكثر، ثم قطع الرضاع باختياره من غير عارض.. حسب ذلك رضعة، فإن عاد إليها بعد فصل طويل، وارتضع منها ما شاء إلى أن قطع باختياره.. حسب ذلك رضعة، إلى أن يستوفي خمس رضعات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة أن ترضع سالمًا خمس رضعات يحرم بلبنها، ولم يحد الرضعة، وكل حكم ورد الشرع به مطلقًا، وليس له حد في الشرع ولا في اللغة.. رجع في حده إلى العرف والعادة، والعرف والعادة في الرضاع هو ما ذكرناه.
وإن التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، ثم أرسله ليتنفس أو ليستريح، ثم عاد إليه من غير فصل طويل، أو أرسله وانتقل إلى الثدي الآخر من غير فصل طويل، أو انتقل ليشرب الماء، ثم عاد إليه من غير طول فصل.. فالجميع رضعه واحدة، كما لو حلف: لا يأكل في النهار إلا أكلة، فقعد يأكل، فأكل، وقطع ليستريح أو ليتنفس أو ليشرب الماء، أو انتقل من لون إلى لون، وأكل بعده من غير أن يطول الفصل.. فالجميع أكلة واحدة، وإن أكل من أول النهار إلى آخره، أو أكل ثم قطع بفصل طويل، ثم رجع وأكل.. كان ذلك أكلتين.