ولغة (?) قائمتين على ضفّة نهر جارٍ، فَعِشْنَ فيه دهراً على خير عيشة، حتى نزل بهن -ذات يوم- غرابٌ جائع اسمه «رَوْجَة»، فشفقن عليه ورأفنَ به، فأطعمنه وسقينه، فلما شبع وروي رأى ما عندهن من الحب؛ فطمع بهن، فقام فيهن خطيباً فقال: إنكنّ قد أحسنتُنّ إليّ وإني مكافئكنّ على إحسانكنّ، اعلمْنَ أني آتٍ من بلد أرقى من بلدكن، وعندي من العلم ما ليس عندكن، فاتّبِعْنَني واتخِذْنَني مستشاراً لوزيرتكنّ أنهضْ بكنّ فتصِرن أمة من الإوز.
فقلن له: أنظرنا حتى نرى رأينا.
وانتحين ناحية يتشاوَرْنَ، فقالت حكيمتُهنّ: إن هذا الغراب يُفسد عليكنّ أمركنّ، وهو عامل على إهلاككنّ بقطعِكُنّ عن أصلكنّ، فقُمْنَ إليه فافقَانَ عينيه، واعلمْنَ أنّ مَن صادق ما ليس من طبعه أصابه ما أصاب البيت من النار.
قُلنَ: وكيف كان ذلك؟
قالت: إنه كان في روضة غَنّاء بيت جميل أمام نهر جارٍ، وإنه لبث ما شاء الله أن يلبث، ثم بدا له فقال: "ما أشَقَّ الحياة بلا رفيق ولا أنيس، وما أشقى من يقيم وحده لا يجد من يشاطره سرّاءه وضرّاءه! وإني منطلقٌ فمبتغٍ لي صديقاً". ولكنه لم يجد إلا النار فخاللها، وباتا متعانقين، فلم يصبحا حتى أصبح رماداً. وإني خائفة عليكنّ صُحبةَ هذا الغراب، فأطعنَني اليوم واعصينَني آخر الدهر.