رأي السكّاكي:
مع أنّ للسكّاكيّ نظرات ثاقبات في علوم البلاغة لكنّه فيما أرى أسرف هنا في التخيُّل وتعسّف، فعكس القضيّة، واعتبر التشبيه المضمر الذي هو من التشبيه المكنيّ على ما ظهر لي استعارةً تخييليّة، إذْ رأى أنّ لفظ "المشبّه" هو الذي استعمل في المشبّه به، بادّعاء أن المشبَّه هو عين "المشبه به" لا غيرُهُ بقرينة ذكر لازم المشبّه به.
ففي قول الْهُذَلي:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ
رأى أنَّ كلمة "الْمَنَيَّة" وهي الموت مُسْتَعارَةٌ للدّلالة بها على الحيوان المفترس "السبع" فلمّا صَارتِ المنيّةُ في تَصَوُّر الشاعر عين السَّبع الذي هو في الأصل مشبَّه به تخيّلَ أنّ للمنيّة أظفاراً تَنْشَب، فقال: أَنْشَبَتِ المنيَّةُ أظفارها، وصاغَها شعراً فقال: وإذا المنيّةُ انشبت أظفارها، وسمّى هذا العمل "استعارة تخييليّة".
ومع أنَّ هذِه النظرة من السّكّاكي نظرةٌ بَدِيعَة وجميلة، إلاَّ أنها اعتمدت على تحليل متعسّف قلّما يخطر في ذهن أصحاب الكلام أنفسهم حين تجري ألسنتهم أو أقلامهم بمثل هذا الكلام.
والطريق الأَقربُ الذي يفهمه أصحاب الكلام أنفسهم هو أن يكون الكلام من قبيل التشبيه البليغ الذي يُذْكَرْ فيه المشبَّهُ به بلفظه، إنّما ذُكِرَ بَدَلَهُ مَا يَدُلُّ عليه من صفاته أو خصائصه أو لوازمه.
وأصل الكلام في عبارة "الْهُذَلِيّ" المنيةُ سَبُعٌ يُنْشِبُ أَظْفَارَه، فإذا أقلبتِ المنيّة لم تنفع التمائم.
هذا تشبيه بَلِيغٌ، لكنّه حذف لفظ المشَبَّه به، وهو كلمة "سَبُع" واكتفى بذكر أداة افتراسه، وهي أنْ يُنْشِبَ أظفارَه، واسند هذا الإِنشاب إلى المنيَّة بَدلَ أن يُسْنِدَ