المثال الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [الآية: 18] .
أي: لَوَ فُرِضَ وُجودُ شفيع لهم لَمْ يَكُنْ مُطَاعاً، فذكر احتمال وجود شفيعٍ غير مُطاع يؤكّد عدم وجود شفيع لهم، إذْ فائدة الشفيع الاستجابة لشفاعته، لكن إذا عُلِمَ ابتداءً أنّ شفاعتَهُ مَرْفوضَةٌ فإنّه لا يُعْتَبَرُ شفيعاً أصْلاً، ولا يُسْمَحُ لَهُ بأَنْ يكون شفيعاً.
المثال الثالث: قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) :
{وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [الآية: 117] .
إنَّ اتّخاذ إلهٍ مع الله عزَّ وجلَّ لا يُمْكِنُ أن يَدُلَّ عليه برهان، فلا يوجَدُ إله غير الله يوصَفُ بأنّ إلهيَّتَهُ ذَاتُ برهان.
فقيد لا برهان به يُؤكِّدُ ضِمْناً عدم وجود شريك لله عزَّ وجلَّ في إلهيتّه.
أقول: في هذا تكريم للفكر الإِنسانيّ أَنْ يبحث كلَّ أُصُول الإِيمان، وقضاياه الكبرى بالبراهين العقليّة، ولا يأخُذَها بمجرّد التسليم للخبر، فمن استطاع أن يأتي برهانٍ على أنّ لله شريكاً في رُبُوبيّتِهِ، أو في إلهيّته، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يعطيه العُذْر في أن يُؤْمِنَ بما توصّل إليه بالدّليل البرهاني.
على أن في التعبير معنى التحدّي بأن يأتي المشركون ببرهان يثبتون به ما يعتقدونه من شركٍ، وهذا التحدّي يتضمَّن تأكيد نفي وجود برهان يُثْبت ادّعاءهم، وبالتالي يؤكّد نفي وجود أيّ شريك لله عزَّ وجلَّ.