الضيف في الليل أكثر، وقلت: "يقطرن من نجدة دماً" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لإنصباب الدم.
وهم بذلك يكونون قد نظروا إلى المقام وما يقتضيه من كلام، كما أن لهم ملاحظات أخرى أثرت عنهم تبين أنهم قد نظروا إلى صحة الوزن وانسجامه وإلى المعنى وصوابه، بل تذكر أنهم قد نظروا إلى القصيدة بتمامها، وإلى نتاج الشاعر جميعه، كما يبدو ذلك من اختيارهم المعلقات، ومن نبذهم عدي بن ربيعة بالمهلهل، لما رأو في شعر، من اختلاف واضطراب وكما يبدو من تلقيبهم شعراءهم بألقاب تدل على مدى إحسانهم، كالنابغة، والأفوه، والمرقش، والمثقب، والمنخل، والمتنخل.
وانبثق فجر الإسلام، وطلعت شمس النبوة، وتوالى نزول آيات القرآن بلسان عربي مبين على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيتلوها على أصحابه، ويتلوها أصحابه على أسماع المسلمين فيحفظونها، وتتردد على أسماعهم آناء الليل وأطراف النهار، وينبهر العرب ببلاغة القرآن الكريم ويعجزون عن مجاراتها، ويسلمون بعجزهم عن أن يجيئوا بمثل أقصر سورة من القرآن، وصار المعاندون ممن كفروا به وأنكروه يقولون مرة: إنه شعر، ومرة أخرى: إنه سحر، وقد كانوا يجدون له وقعاص في القلوب وقرعاً في النفوس يريهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف، ولهذا قال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.
أقبل المسلمون على القرآن الكريم؛ يتزودون من معينه الذي لا ينضب ويرتشفون من رحيقه العذب ويرتوون من مائه السلسبيل حتى رق إحساسهم وأرهفت مشاعرهم، وسلمت أذواقهم، وعرفوا من خواص التراكيب ما لم يكونوا يعرفون، وشهدوا من مظاهر النظم وخصائصه ما لم يكونوا يشهدون!
وكانت أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي أعطى جوامع الكلم ولا ينطق عن الهوى تتردد على الأسماع، والخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - كانوا خطباء مفوهين، وكانت لهم ملاحظات في نقد الكلام وبلاغته.