البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن كما يعرف صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدليل والبرهان، وقال مثل هذا كثيرون منهم أبو هلال العسكري والإمام عبد القاهر الجرجاني والعلامة جار الله الزمخشري وأبو يعقوب السكاكي وغيرهم.
وقد سبق تناول طرف من هذه الأقوال، وصاحب اللسان العربي إذا أراد أن ينشئ أدبًا -شعرًا كان أو نثرًا- لا يتسنى له ذلك إلا إذا علم بقواعد علوم البلاغة، وجعلها مِصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة وأسباب رفعتها وجمالها، والناقد الأدبي يتخذ من هذه العلوم أمضى أسلحته، فهي هاديه في إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، ولا يمكنه أن يفاضل بين كلام وكلام، ولا أن يبرز ما تضمنه العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداء إلا بالوقوف على قواعد هذا العلوم، حتى تأتي أحكامه بعيدةً عن الفوضى والتخليط.
تلك بإيجاز منزلة علوم البلاغة وأهميتها في مجال الدراسات العربية جميعًا. وعلم البديع له هذه المكانة وتلك المنزلة بين العلوم الأخرى باعتباره واحدًا من هذه العلوم الثلاثة.
لكن إذا كانت هذه منزلة علم البديع بين سائر العلوم المختلفة، فما منزلته بين الدراسات البلاغية أو بين علوم البلاغة الثلاثة؟
جعل أبو يعقوب السكاكي منزلة هذا العلم بعد منزلة علمي المعاني والبيان، واقتدى به المتأخرون من علماء البلاغة، فعدوا ألوان البديع وفنونه ذيلًا من ذيول البلاغة وتابعًا من توابعها، فعلم البلاغة عندهم مقصورٌ على علمَي المعاني والبيان، والذي جعلهم يضعون علم البديع هذا الموضع ويُوقعون عليه هذا