الابتلاء وأراد انكشاف حقيقتهم المسببة عن هذا الابتلاء. من ذلك أيضا قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فقد أراد أن يعبر عن شهرة أدبه وذيوع شعره، وبلوغه مبلغا جعل من له علم بالأدب ينظر إليه ويعلمه، ومن لم يسمع شعرًا يسمع كلماته ويدركها، وقد عبر الشاعر بالأعمى والأصم، وأراد من لا معرفة له بالأدب ولا علم عنده بجيده، والعلاقة كما هو معلوم بين المعنيين السببية فإن السمع والبصر من أسباب العلم بالأشياء، وعلى العكس فالعمى والصمم من أسباب الجهل بها والقرينة هي قوله: نظر، وأسمعت كلماتي، فإنه يستحيل أن يسمع الأصم أو يبصر الأعمى شيئا.
إذن فهو أطلق السبب في الإدراك، وهو السمع والبصر وأراد المسبب عنهما وهو ذيوع أدبه وشعره. من ذلك أيضا قول آخر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وهو يدعو على نفسه إن لم يحقق رغبته في الكيد لامرأته بضرة حسناء أن يقتل له قتيل، ويعجز عن الأخذ بثأره فيرضى بأخذ ديته ويأكل من هذه الدية، وقد عبر عن الدية بالدم والدم سبب فيها، وكان هذا طبعا عيبا عند العرب، فهو على أي حال مجاز أطلق فيه السبب وهو الدم على المسبب وهو الدية.
من ذلك أيضا إطلاق اليد على العطاء والنعمة؛ لأن اليد سبب في إيصال النعمة للمحتاجين، كما في قولهم: جلت يده عندي وكثرت أياديه علي وعمت أياديه الورى، يريدون بذلك نعمه وعطاياه، ويشترط في هذا الاستعمال أن يكون في الكلام إشارة إلى صاحب النعمة؛ ليكون كالقرينة، وهذا متمثل في الضمير العائد على الممدوح في الأمثلة المذكورة، ولذا لا يقال: كثرت الأيادي عندي.