المسند إليه المنفي على الخبر الفعلي، وهذا يفيد الاختصاص، وعليه فهذه الجملة تفيد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إثبات للقول أن قولا قد قيل.
الأمر الثاني: هو أنه نفاه عن نفسه على جهة الاختصاص.
الأمر الثالث: أنه خص به غيره.
ولذلك لا يصح بلاغة أن نضيف على هذه الكلمة أو هذه العبارة، "ولا قاله أحد غيري"؛ لأنه بذلك يكون قد نقض نفسه، ما أنا قلت هذا. يعني: معنى ذلك أن غيره قد قاله، فعندما يقول: ولا قاله غيري إذن، يكون بذلك قد ناقض نفسه. هذه معاني ثانوية ما كان لها أن تُفهم إلا بتعلم علوم المعاني، وأسرار ذكر المسند إليه، وأسرار تقديمه إلى آخر ذلك.
وأنت إذا نظرت إلى قولهم: "هو كثير رماد القدر": وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تُنصب له القدور الكثيرة، ويُطبخ فيها للقرى والضيفان، وذلك لأنه إذا كثر الطبخ كثر إحراق الحطب، وإذا كثر إحراق الحطب تحتها؛ كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان كناية، وإذا قد عرفت في الكناية، فالاستعارة في هذه القضية.
هذا بالنص كلام عبد القاهر، وأنا أردت أن أسوقه؛ لأبين أن كلام عبد القاهر عندما يذكر في (دلائل الإعجاز) أو (أسرار البلاغة)، إنما كلام تستشعر منه عظمة العبارة وعظمة القائل، وهكذا تكون البلاغة، فأنت تقرأ في كلام عبد القاهر تستمتع، وتستشعر معاني البلاغة بحق.
كذلك كل ما فيه على الجملة مجاز، أو إتساع، أو عدول باللفظ عن الظاهر هو داخل في هذا الباب، ويسمى هذا معنى المعنى، وفيه -كما يقول عبد القاهر-