فقد جمع الشاعر هنا في وجه الشبه بين اللون والاستدارة والحركة، وما تُحدثه في اللون من تموج واضطراب، فإن البوتقة -وهو وعاء صغير يذيب فيه الصائغ الذهب والفضة- إذا أحميت وذاب فيها الذهب تُشكِّل الذهب بشكلها في الاستدارة، ويتحرك هذا الذهب فيها بجملته تلك الحركة العجيبة، كأنه يهمُّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها؛ لما في خواصه من النعومة، ثم يعود فيهبط إلى داخل البوتقة، لما بين أجزائه من شدة التلاحم والاتصال، فهو لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء، ولذلك يتجمع لمعان الذهب في مركز دائرته كما تجمع الضوء في مركز المرآة المستديرة في تشبيه ابن المعتز.
ولولا مراعاة هذه الحركة في تركيب وجه الشبه، لما بدا التشبيه بهذه الصورة الرائعة، ومن بديع المركب الحسي ما يكون وجه الشبه فيه حركة مجردة من كل وصف، بأن يكون وجه الشبه مكونًا من هيئة الحركات الموجودة في الطرفين، دون ما نظر إلى ما عداها من سائر الصفات، ونذكر من ذلك مثلًا قول أحمد بن سليمان يصف روضة أو حديقة:
حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح جاء يميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
فهنا شبه في البيت الأول شجر السُّرِّ في اعتداله وطول قامته، وخضرة أوراقه بالجواري الحسان، ذوات القوام المعتدل، وقد تلحفَّن بالحرير الأخضر، ووجه الشبه كما هو بيِّن هو الهيئة الحاصلة من وجود أجسام منتصبة معتدلة القامة، تحيط بها أشياء ذات لون أخضر، وفي البيت الثاني شبه حركة شجر السُّرِّ، والريح يميل فروعها بعضها إلى بعض، ثم تردت إلى أصل وضعها بحركة عاشقين