خلق الإنسان ضعيفا يعتريه الحزن والخوف والفرح فتؤثر فيه الأحداث تأثيرا بليغا، فيحتاج إلى التنفيس عن باطنه المكبوت، وأحيانا يخونه التعبير أحوج ما يكون إليه فيكون دمع العين أبلغ تعبيرا وأكثر دلالة على الصدق من الألفاظ بل من الأيمان أحيانا، ويصور ذلك قوله تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (?) فالمتأمل لهذه الحادثة يدرك بجلاء ثناء الله تعالى على تلك القلوب المتعلقة بنصر دينه والرغبة الصادقة في مشاركة رسوله صلى الله عليه وسلم الجهاد بالنفس مع عدم المال وذات اليد، أما قوله تعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (?) فيشهد أن الأيمان المغلظة لم تجد شيئا أمام كذب القلوب، مع أن الكذب قد يتلبس به البكاء أيضا فالبكاء الكاذب ودموع التماسيح لا تجدي شيئا مع مخالفة الحال للمقال فهؤلاء أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون، وكان إحساسه العميق بكذبهم -لمعرفته بغيرتهم وتخوفه من كيدهم مع صدق النبوءة- في محله.
ولما كان البكاء بهذه المثابة وله هذا الشأن كان منه ما مدحه الشارع ومنه ما ذمه، وسنتناول في هذا الباب البكاء الممدوح، والمدح يثبت بالثناء على فاعله بالكتاب أو بالسنة، ومن خلال الاستقصاء لأنواع البكاء الممدوح أستعرضه في العناوين التالية: