و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فهذا وجه بيان الأشياء بذواتها لمن اعتبرها وطلب البيان منها، فإذا حصل هذا البيان للمتفكر صارعا لما بمعاني الأشياء، وكان ما يعتقد من ذلك بياناً ثانياً غير ذلك البيان، وخص باسم الاعتقاد، ولما كان ما يعتقده الإنسان من هذا البيان، ويحصل في نفسه منه غير متعد له إلى غيره وكان الله - عز وجل - قد أراد أن يتمم منه فضيلة الإنسان خلق له اللسان، وأنطقه بالبيان، فخبر به عما في نفسه من الحكمة التي أفادها، والمعرفة التي اكتسبها، فصار ذلك بياناً ثالثاً أوضح مما تقدمه، وأعم نفعاً لأن الإنسان يشترك فيه مع غيره، والذي قبله إنما ينفرد به وحده، إلا أن البيانين الأولين بالطبع، فهما لا يتغيران وهذا البيان والبيان الآتي بعده بالوضع فهما يتغيران بتغير اللغات، ويتباينان بتباين الاصطلاحات. ألا ترى أن الشمس واحدة في ذاتها، وكذلك هي في اعتقاد العربي والعجمي، فإذا صرت إلى اسمها وجدته في كل لسان من الألسن بخلاف ما هو في غيره، وكذلك الكتاب، فإن الصور والحروف تتغير فيه بتغير لغات أصحابه، وإن كانت الأشياء غير متغيرة بتغير الألسن المترجمة عنها.
ولشرف البيان وفضيلة اللسان قال أمير المؤمنين - عليه السلام-: المرء مخبوء تحت لسانه [فإذا تكلم ظهر] وهذا من أشرف الكلام وأحسنه، وأكثره معنى وأخصره، لأنك لا تعرف الرجل حق معرفته إلا إذا خاطبته وسمعت منطقه، ولذلك قال بعضهم. وقد سئل في كم تعرف الرجل؟ قال: إن سكت ففي يوم، وإن نطق ففي ساعة. وقال بعض الحكماء: إن