وهذا الفصل من أهم الفصول، وقد زلت فيه أقدام، نسأل الله التسديد والإعانة، إنه خير مسئول، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد تكلم عن حجية قول الصحابي جمع من العلماء، من المتقدمين والمتأخرين، وقد اشتهر الكلام فيها، إلا أن ما اطلعت عليه من هذه المصنفات، قد أغفل الرد التفصيلي على بعض الجوانب التي لها تعلق مباشر بموضوع البحث، كتوجيه لبعض الأحاديث، والآثار التي تدل على جواز وقوع البدعة من بعض الصحابة، والتي يترتب على التسليم لظاهرها عدم حجية أقوالهم، وأفعالهم، وأنها يستدل لها لا بها، أو التسليم بتخصيص عموم أحاديث ذم البدع، وأن هناك بدعاً حسنة، وستأتي هذه الأدلة، وتوجيهها في مكانها من البحث بعون الله تعالى.
والراجح في هذا الباب أن قول الصحابي أو فعله أصل لمن أتي بعده، فلا يجوز أن يوصف من فعل فعلاً أو قال قولاً، وله فيه سلف من هذا الرعيل الأول من جيل الصحابة - الذين اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والذين عايشوا نزول الوحي، واشتدوا في متابعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته - بالبدعية، ولكن هذا لا يمنع أن تكون أقوالهم عند التعارض مرجوحة، أو غيرها راجح عليه طبقاً لما هو مقرر في قواعد الترجيح، فهذا ليس مما نحن فيه.
قال الشاطبي: [سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور:
أحدها ثناء الله عليهم مَثْنوية (?) ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضى باستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول: أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر. وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي. وثالثا أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح، وأيضا فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم؛ فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق وأنهم وسط أي عدول بإطلاق وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم كقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} الآية وأشباه ذلك.
والثاني ما جاء في الحديث من الأمر بإتباعهم وأن سنتهم في طلب الإتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) (?) وقوله: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي) (?)، وعنه أنه قال: (أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به) (?) ...
والثالث أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل فقد جعل طائفة قول أبي يكر وعمر حجة ودليلا وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المتعمد في المسألة وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون