وَهَذَا مِنْ فِطْنَتِهَا وَغَزَارَةِ فَهْمِهَا ; لِأَنَّهَا اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَكُونَ عَرْشُهَا ; لِأَنَّهَا خَلَّفَتْهُ وَرَاءَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ الْغَرِيبِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 42] أَيْ: وَمَنَعَهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَسْجُدُ لَهَا هِيَ وَقَوْمُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، اتِّبَاعًا لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ لَا لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحٍ مِنْ زُجَاجٍ، وَعَمِلَ فِي مَمَرِّهِ مَاءً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَقْفًا مِنْ زُجَاجٍ وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ، وَأُمِرَتْ بِدُخُولِ الصَّرْحِ وَسُلَيْمَانُ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ فِيهِ {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يُبَشِّعُوا مَنْظَرَهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ، وَأَنْ تُبْدِيَ عَنْ سَاقَيْهَا لِيَرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ فَيُنَفِّرَهُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَخَشُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ; لِأَنَّ أُمَّهَا مِنَ الْجَانِّ فَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَافِرَهَا كَانَ كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِزَالَتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا سَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ زَوَالِهِ، فَذَكَرُوا لَهُ الْمُوسَى، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَ الْجَانَّ فَصَنَعُوا لَهُ النُّورَةَ، وَوَضَعُوا لَهُ الْحَمَّامَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّهُ قَالَ: أَوْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْهِ أَوْهِ قَبْلَ