عَلَى بِنَائِهِ، وَأَحْضَرَ مِنْ كُلِّ الْبِلَادِ فُعَّالًا وَصُنَّاعًا وَمُهَنْدِسِينَ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أُلُوفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ لَبِنَةً فِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْأَرْضُ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ثُمَّ قَالَ: ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. وَأَمَرَ بِبِنَائِهَا مُدَوَّرَةً، سُمْكُ سُورِهَا مِنْ أَسْفَلِهِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ أَعْلَاهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَجَعَلَ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ فِي السُّورِ الْبَرَانِيِّ، وَمِثْلَهَا فِي الْجَوَّانِيِّ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ تُجَاهَ الْآخَرِ، وَلَكِنِ أَزْوَرُ عَنِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بَغْدَادُ الزَّوْرَاءَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِازْوِرَارِهَا بِسَبَبِ انْحِرَافِ دِجْلَةَ عِنْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَنَى قَصْرَ الْإِمَارَةِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَاخْتَطَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ إِلَى جَانِبِ الْقَصْرِ، وَكَانَ الَّذِي وَضَعَ قِبْلَتَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُقَالُ: إِنَّ فِي قِبْلَتِهِ انْحِرَافًا يَحْتَاجُ الْمُصَلِّي فِيهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُ; لِأَنَّهُ بُنِيَ قَبْلَ الْقَصْرِ، وَجَامِعُ الْمَدِينَةِ بُنِيَ عَلَى الْقَصْرِ. فَاخْتَلَّتْ قُبْلَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَجَالِدٍ، أَنَّ الْمَنْصُورَ أَرَادَ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ، فَحَلَفَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَتَوَلَّى لَهُ، وَحَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَفْعَلَ، فَوَلَّاهُ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبِ اللَّبِنَ وَعَدِّهِ، وَأَخْذِ الرِّجَالِ بِالْعَمَلِ، فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ، حَتَّى فَرَغَ مِنَ اسْتِتْمَامِ حَائِطِ الْمَدِينَةِ مِمَّا