يَرَيَانِهِ، فَلَمَّا بَصُرَتِ الْجَارِيَةُ بِالْأَحْوَصِ بَكَتْ إِلَيْهِ وَبَكَى إِلَيْهَا، وَأَمَرَتْ فَأُلْقِيَ لَهُ كُرْسِيٌّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْكُو إِلَى صَاحِبِهِ شِدَّةَ الشَّوْقِ، فَلَمْ يَزَالَا يَتَحَدَّثَانِ إِلَى السَّحَرِ، وَيَزِيدُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا رِيبَةٌ، حَتَّى إِذَا هَمَّ الْأَحْوَصُ بِالْخُرُوجِ قَالَ:
أَمْسَى فُؤَادِيَ فِي هَمٍّ وَبَلْبَالِ ... مِنْ حُبِّ مَنْ لَمْ أَزَلْ مِنْهُ عَلَى بَالِ
فَقَالَتْ:
صَحَا الْمُحِبُّونَ بَعْدَ النَّأْيِ إِذْ يَئِسُوا ... وَقَدْ يَئِسْتُ وَمَا أَصْحُو عَلَى حَالِ
فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَسْلُو بِيَأْسٍ عَنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَعَنْكِ سَلَّامَ مَا أَمْسَيْتُ بِالسَّالِي
فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ يَا شَجَنِي ... حَتَّى تُفَارِقَ مِنِّي الرُّوحُ أَوْصَالِي
فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا خَابَ مَنْ أَمْسَى وَأَنْتِ لَهُ ... يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ فِي أَهْلٍ وَفِي مَالِ
قَالَ: ثُمَّ وَدَّعَهَا وَخَرَجَ، فَأَخَذَهُ يَزِيدُ، وَدَعَا بِهَا فَقَالَ: أَخْبِرَانِي عَمَّا كَانَ فِي لَيْلَتِكُمَا وَاصْدُقَانِي. فَأَخْبَرَاهُ وَأَنْشَدَاهُ مَا قَالَا، فَلَمْ يَخْرِمَا حَرْفًا، وَلَا غَيَّرَا شَيْئًا مِمَّا سَمِعَهُ. فَقَالَ لَهَا يَزِيدُ: أَتُحِبِّينَهُ؟ قَالَتْ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا جَرَى كَالرُّوحِ فِي جَسَدِي ... فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ
فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهَا؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا تَلِيدًا غَيْرَ مُطَّرِفٍ ... بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِثْلَ النَّارِ يَضْطَرِمُ