خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَدَعَا حِسَانًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا وَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ ... لَمْ يَغْذُهُمْ آبَاؤُهُمْ بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا ... كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ ... إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي ... وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ الْخُرْطُومِ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ ; مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ يُقْطِعُنِي أَرْضَ الْبَثْنِيَّةِ فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا، وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا، وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ "، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ السَّنَةَ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.