الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْبَاذَرَائِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالْأُمَوِيِّ، تَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْخُوَيِّيِّ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ جَامِعِ جِرَاحٍ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمًا شَدِيدَ الزِّحَامِ، وَقَدْ كَانَ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فُنُونٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَخْلَاقِ اللَّطِيفَةِ، وَفَصَاحَةِ الْمَنْطِقِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَفِقْهِ النَّفْسِ، وَكِتَابُهُ " الْإِقْلِيدُ " الَّذِي جَمَعَهُ عَلَى أَبْوَابِ " التَّنْبِيهِ " وَصَلَ فِيهِ إِلَى بَابِ الْغَصْبِ، دَلِيلٌ عَلَى فِقْهِ نَفْسِهِ، وَعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَقُوَّةِ هِمَّتِهِ، وَنُفُوذِ نَظَرِهِ، وَاتِّصَافِهِ بِالِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ فِي غَالِبِ مَا سَطَرَهُ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ، وَهُوَ شَيْخُ أَكَابِرِ مَشَايِخِنَا هُوَ وَالشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَلَهُ " اخْتِصَارُ الْمَوْضُوعَاتِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحَضَرَ عِنْدَ ابْنِ الزَّبِيدِيِّ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "، وَسَمِعَ مِنَ ابْنِ اللَّتِّيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَانْتَفَعَ بِهِمَا، وَخَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ أَحَدُ تَلَامِيذهِ مَشْيَخَةً فِي عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ، فَسَمَّعَهَا عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لِلَّهِ أَيَّامُ جَمْعِ الشَّمْلِ مَا بَرِحَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ سَمَرَا
وَمُبْتَدَا الْحُزْنِ مِنْ تَارِيخِ مَسْأَلَتِي ... عَنْكُمْ فَلَمْ أَلْقَ لَا عَيْنًا وَلَا أَثَرَا
يَا رَاحِلِينَ قَدَرْتُمْ فَالنَّجَاةُ لَكُمْ ... وَنَحْنُ لِلْعَجْزِ لَا نَسْتَعْجِزُ الْقَدَرَا