رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِمَوْتِهِ إِلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَدَعَا لَهُ الْخُطَبَاءُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَنَابِرِ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعُمْرُهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَجْوَدِ بَنِي الْعَبَّاسِ سِيرَةً، وَأَحْسَنِهِمْ سَرِيرَةً، وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً، وَأَحْسَنِهِمْ مَنْظَرًا وَرُوَاءً، وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ لَصَلُحَتِ الْأُمَّةُ صَلَاحًا كَثِيرًا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَكِنْ أَحَبَّ اللَّهُ تَقْرِيبَهُ وَإِزْلَافَهُ لَدَيْهِ، فَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَأَجْزَلَ لَهُ إِحْسَانَهُ وَرِفْدَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اعْتَمَدَهُ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ الدِّيوَانِيَّةِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَإِسْقَاطِ الْمُكُوسِ، وَتَخْفِيفِ الْخَرَاجِ عَنِ النَّاسِ، وَأَدَاءِ الدُّيُونِ عَمَّنْ عَجَزَ عَنْ قَضَائِهَا، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَتَوْلِيَةِ ذَوِي الدِّيَانَةِ. وَقَدْ كَانَ كَتَبَ كِتَابًا لِوُلَاةِ الرَّعِيَّةِ، فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إِمْهَالُنَا إِهْمَالًا، وَلَا إِغْضَاؤُنَا احْتِمَالًا، وَلَكِنْ لَنَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَقَدْ غَفَرْنَا لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ إِخْرَابِ الْبِلَادِ، وَتَشْرِيدِ الرَّعَايَا، وَتَقْبِيحِ الشَّرِيعَةِ، وَإِظْهَارِ الْبَاطِلِ الْجَلِيِّ فِي صُورَةِ الْحَقِّ الْخَفِيِّ حِيلَةً وَمَكِيدَةً، وَتَسْمِيَةِ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاجْتِيَاحِ اسْتِيفَاءً وَاسْتِدْرَاكًا، لِأَغْرَاضٍ انْتَهَزْتُمْ فُرَصَهَا، مُخْتَلَسَةً مِنْ بَرَاثِنِ لَيْثٍ بَاسِلٍ، وَأَنْيَابِ أَسَدٍ مَهِيبٍ، تُنْفِقُونَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْتُمْ أُمَنَاؤُهُ وَثِقَاتُهُ،