فِي النُّحَاسِ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ جَاءَتْ بِهِ عَمَّتُهُ إِلَى مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ الْحَافِظِ، فَلَزِمَ الشَّيْخَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ بِابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَحَفِظَ الْوَعْظَ، وَوَعَظَ وَهُوَ دُونَ الْعِشْرِينَ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ، وَكَانَ صَيِّنًا دَيِّنًا، مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا، وَلَا يَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا لِلْجُمُعَةِ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَ وَعْظِهِ الْخُلَفَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَمِنْ سَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَأَقَلُّ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ مِنْ خَاطِرِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أُسْتَاذًا فَرْدًا فِي الْوَعْظِ، لَهُ مُشَارَكَاتٌ حَسَنَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ، وَتَرَفُّعٌ فِي نَفْسِهِ، وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي نَثْرِهِ وَنَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا زِلْتُ أُدْرِكُ مَا غَلَا بَلْ مَا عَلَا ... وَأَكَابِدُ النَّهْجَ الْعَسِيرَ الْأَطْوَلَا
تَجْرِي بِيَ الْآمَالُ فِي حَلَبَاتِهِ ... طَلَقَ السَّعِيدِ جَرَى مَدَى مَا أَمَّلَا
يُفْضِي بِيَ التَّوْفِيقُ فِيهِ إِلَى الَّذِي ... أَعْمَى سِوَايَ تَوَصُّلًا وَتَغَلْغُلَا
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَخْصًا نَاطِقًا ... وَسَأَلْتُهُ هَلْ زُرْتَ مِثْلِي قَالَ لَا
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا، وَيُرْوَى لِغَيْرِهِ:
إِذَا قَنِعْتَ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ ... أَصْبَحْتَ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ مَمْقُوتِ
يَا قُوتَ نَفْسِي إِذَا مَا دَرَّ خِلْفُكَ لِي ... فَلَسْتَ آسَى عَلَى دُرٍّ وَيَاقُوتِ