الآية وما بعدها، فَاسْتَنْبَطَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَذَكَرَ ضَرْبًا مِنَ الْعُلُومِ بِعِبَارَةٍ طَلْقَةٍ جَارِيَةٍ مَعْسُولَةٍ، أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَلَعْثُمٍ وَلَا تَلَجْلُجٍ وَلَا تَكَلُّفٍ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَشَكَرَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ دَرْسًا مِثْلَهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ منه توفى الصدر برهان الدين بْنُ لُؤْلُؤٍ الْحَوْضِيُّ، فِي دَارِهِ بِالْقَصَّاعِينَ وَلَمْ يَمْرَضْ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ فَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَامًا خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ فَدَفَنُوهُ بِمَقَابِرِهِمْ بِبَابِ الصغير، فدفن عند أبيه رحمه اللَّهُ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَقِيَامٌ مَعَ النَّاسِ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الدَّوْلَةِ وَقَبُولٌ عِنْدَ نُوَّابِ السَّلْطَنَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الْخَيْرِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى سَمَاعِ مَوَاعِيدِ الْحَدِيثِ وَالْخَيْرِ، وكان له مال وثروة ومعروف، قارب الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَخْبَرَ بِمَوْتِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقَّاشِ الْمِصْرِيِّ بِهَا، وَكَانَ وَاعِظًا بَاهِرًا، وفصيحا ماهرا، ونحويا شَاعِرًا، لَهُ يَدٌ طُولَى فِي فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقُدْرَةٌ عَلَى نَسْجِ الْكَلَامِ، وَدُخُولٌ عَلَى الدَّوْلَةِ وَتَحْصِيلُ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَخْبَرَ الْبَرِيدُ بِوِلَايَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَالِكِيِّ الْبَغْدَادِيِّ، الَّذِي كَانَ قَاضِيًا بِالشَّامِ لِلْمَالِكِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ رُتِّبَ لَهُ مَعْلُومٌ وَافِرٌ يَكْفِيهِ وَيَفْضُلُ عَنْهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ مَنْ يُحِبُّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ الرَّئِيسُ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّدْرِ جَمَالِ الدِّينِ أحمد بن الرَّئِيسِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، أَحَدُ مَنْ بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْبَلَدِ وَكُبَرَائِهَا، وَقَدْ كان باشر مباشرات كبار كَأَبِيهِ وَعَمِّهِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَلَكِنْ فَاقَ هَذَا على أسلافه فإنه باشر وكالة الْمَالِ مُدَّةً، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْعَسَاكِرِ أَيْضًا، ثُمَّ وَلِيَ كِتَابَةَ السِّرِّ مَعَ مَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ وَتَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ دَرَّسَ فِي الْعَصْرُونِيَّةِ مِنْ قَبْلِ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عُزِلَ عَنْ مَنَاصِبِهِ الْكِبَارِ، وَصُودِرَ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ يُقَارِبُ مِائَتَيْ أَلْفٍ، فَبَاعَ كَثِيرًا مِنْ أَمْلَاكِهِ وَمَا بَقِيَ بِيَدِهِ مِنْ وَظَائِفِهِ شَيْءٌ، وَبَقِيَ خَامِلًا مُدَّةً إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَتُوُفِّيَ بَغْتَةً، وَكَانَ قَدْ تَشَوَّشَ قَلِيلًا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الْعَصْرَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ بَابِ النَّاطَفَانِيِّينَ إِلَى تُرْبَتِهِمُ الَّتِي بِسَفْحِ قَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَهُ، خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ بن قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَجُعِلَ مَعَ أَبِيهِ شَرِيكًا فِي الْقَضَاءِ وَلُقِّبَ فِي التَّوْقِيعِ الْوَارِدِ صُحْبَةَ الْبَرِيدِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ «قَاضِي الْقُضَاةِ» فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ بِدَارِ السَّعَادَةِ وَجَاءَ وَمَعَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ