الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ، وَقَدْ أَطَالَ قِصَّتَهُ جِدًّا. وَفِيهَا سَقَطَتْ قَنْطَرَةٌ رُومِيَّةٌ قَدِيمَةُ الْبِنَاءِ بِسُوقِ الدَّقِيقِ مِنْ دِمَشْقَ، عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ، فَتَهَدَّمَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ، وَكَانَ سُقُوطُهَا نَهَارًا. وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ فَأَحْرَقَ جَمِيعَ حَشْوِهَا، وَكَانَتْ سَلَالِمُهَا سِقَالَاتٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ وَدَائِعُ كَثِيرَةٌ كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الْحَمْدُ. وَقَدِمَ السُّلْطَانُ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى دِمَشْقَ فَأَمَرَ بِإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ، قُلْتُ: ثُمَّ احْتَرَقَتْ وَسَقَطَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأُعِيدَتْ عِمَارَتُهَا أَحْسَنَ مِمَّا كَانَتْ وللَّه الْحَمْدُ. وَبَقِيَتْ حِينَئِذٍ الْمَنَارَةُ الْبَيْضَاءُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ مَرِيضًا فِي مِحَفَّةٍ إِلَى الدِّيَارِ المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هُوَ فِيهِ عَنْ أَمْرِهِ بِقَتْلِ أَخِيهِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْكَامِلِ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ سَجَنَهُ سَنَةَ اسْتَحْوَذَ عَلَى مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالِهَا أَمَرَ بِخَنْقِهِ فَخُنِقَ بِتُرْبَةِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ، فَمَا عُمِّرَ بَعْدَهُ إِلَّا إِلَى النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَشَدِّ مَرَضٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
قَاضِي القضاة بالديار المصرية.
الْحَكِيمِ الْمَنْطِقِيِّ الْبَارِعِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ جَيِّدَ السِّيرَةِ فِي أَحْكَامِهِ قَالَ أَبُو شَامَةَ: أَثْنَى عَلَيْهِ.
غَيْرُ وَاحِدٍ.
عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ المحرمي
كَانَ شَابًّا فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا مَاهِرًا، صَنَّفَ كِتَابًا مُخْتَصَرًا وَجِيزًا جَامِعًا لِفُنُونٍ كَثِيرَةٍ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْعَقْلِ وَذَمِّ الْهَوَى، وَسَمَّاهُ نَتَائِجَ الْأَفْكَارِ. قَالَ فِيهِ مِنَ الْكَلِمِ الْمُسْتَفَادَةِ الْحِكْمِيَّةِ: السُّلْطَانُ إِمَامٌ مَتْبُوعٌ، وَدِينٌ مَشْرُوعٌ، فَإِنْ ظَلَمَ جَارَتِ الْحُكَّامُ لِظُلْمِهِ، وَإِنْ عَدَلَ لَمْ يَجُرْ أَحَدٌ فِي حُكْمِهِ، مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَبَسَطَ يَدَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَرَفَعَ مَحَلَّهُ وَمَكَانَهُ، فَحَقِيقٌ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَيُخْلِصَ الدِّيَانَةَ، وَيُجَمِّلَ السَّرِيرَةَ، وَيُحْسِنَ السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والأجر غَرَضِهِ الْمَقْصُودَ، فَالظُّلْمُ يُزِلُّ الْقَدَمَ، وَيُزِيلُ النِّعَمَ، ويجلب الفقر، وَيُهْلِكُ الْأُمَمَ.
وَقَالَ أَيْضًا: مُعَارَضَةُ الطَّبِيبِ تُوجِبُ التعذيب، رب حيلة أنفع من قبيلة، سَمِينُ الْغَضَبِ مَهْزُولٌ، وَوَالِي الْغَدْرِ مَعْزُولٌ، قُلُوبُ الْحُكَمَاءِ تَسْتَشِفُّ الْأَسْرَارَ مِنْ لَمَحَاتِ الْأَبْصَارِ، ارْضَ مِنْ أَخِيكَ فِي وِلَايَتِهِ بِعُشْرِ مَا كُنْتَ تعهده في مَوَدَّتِهِ، التَّوَاضُعُ مِنْ مَصَائِدِ الشَّرَفِ، مَا أَحْسَنَ حُسْنَ الظَّنِّ لَوْلَا أَنَّ فِيهِ الْعَجْزَ. مَا أَقْبَحَ سُوءَ الظَّنِّ لَوْلَا أَنَّ فِيهِ الْحَزْمَ. وذكر في غضون كَلَامِهِ أَنَّ خَادِمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَذْنَبَ فَأَرَادَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَمَا لَكَ ذَنْبٌ تخاف من الله فيه؟ قال بلى،