وَأَنَا صَغِيرٌ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُدَرِّسُ مِثْلَهُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى بَلَدِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَمَاتَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سبع وَأَرْبَعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فِيهَا الْتَقَى الْمَلِكُ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمَ شَاهِ الْخُوَارَزْمِيُّ مَعَ الْكُرْجِ فَكَسَرَهُمْ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَصَمَدَ إِلَى أَكْبَرِ مُعَاقَلَتِهِمْ تَفْلِيسَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَتَلَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْكَفَرَةِ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ الْكُرْجُ أَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهِيَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الْآنَ حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ جَلَالُ الدِّينِ هَذَا، فَكَانَ فَتْحًا عَظِيمًا وللَّه المنة. وَفِيهَا سَارَ إِلَى خِلَاطَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ نَائِبِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِهَا وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالًا عَظِيمًا فَرَجَعَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِ بِعِصْيَانِ نَائِبِهِ بِمَدِينَةِ كَرْمَانَ وَخِلَافِهِ لَهُ، فَسَارَ إليهم وَتَرَكَهُمْ. وَفِيهَا اصْطَلَحَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مَعَ أَخِيهِ الْمُعَظَّمُ وَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ الْمُعَظَّمُ مُمَالِئًا عَلَيْهِ مَعَ جَلَالِ الدِّينِ وَصَاحِبِ إِرْبِلَ وَصَاحِبِ مَارِدِينَ وَصَاحِبِ الرُّومِ، وَكَانَ مَعَ الْأَشْرَفِ أَخُوهُ الْكَامِلُ وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ، ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوى جانبه. وفيها كان قتال كبير بين إبرنش أَنْطَاكِيَةَ وَبَيْنَ الْأَرْمَنِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ وَفِيهَا أَوْقَعَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدِّينِ بِالتُّرْكُمَانِ الْإِيوَانِيَّةِ بأسا شديدا، وكانوا يقطعون الطرق عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا قَدِمَ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي الرَّسْلِيَّةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ بِدِمَشْقَ، وَمَعَهُ الْخِلَعُ وَالتَّشَارِيفُ لِأَوْلَادِ الْعَادِلِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الرِّسَالَةِ نَهْيُهُ عَنْ مُوَالَاةِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، فَإِنَّهُ خَارِجِيٌّ مِنْ عَزْمِهِ قِتَالُ الْخَلِيفَةِ وَأَخْذُ بَغْدَادَ مِنْهُمْ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَرَكِبَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْجَوْزِيِّ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، وَحَصَلَ لَهُ جَوَائِزُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمُلُوكِ، منها كان بناء مدرسته الْجَوْزِيِّةِ بِالنَّشَّابِينَ بِدِمَشْقَ. وَفِيهَا وَلِيَ تَدْرِيسَ الشِّبْلِيَّةِ بالسفح شمس الدين محمد بْنُ قِزُغْلِي سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِمَرْسُومِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ أَوَّلَ يَوْمٍ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
كَانَتْ وفاة الخليفة رحمه الله يَوْمَ الْجُمُعَةِ ضُحَى الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِمَوْتِهِ إِلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَدَعَا لَهُ الْخُطَبَاءُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَنَابِرِ عَلَى عَادَتِهِمْ فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ عشر يوما، وعمره اثنتان وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَجْوَدِ بَنِي الْعَبَّاسِ وأحسنهم سيرة وسريرة، وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً وَأَحْسَنِهِمْ مَنْظَرًا وَرُوَاءً، وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ لَصَلُحَتِ الْأُمَّةُ صَلَاحًا كَثِيرًا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَكِنْ أَحَبَّ اللَّهُ تَقْرِيبَهُ وَإِزْلَافَهُ لَدَيْهِ، فَاخْتَارَ له ما عنده وأجزل له إحسانا