القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحى وهو في قبة الصخرة أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سَنِيَّةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا شَرَفَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وما فيه من الدلائل والأمارات. وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها وكان أول ما قَالَ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 6: 45.
ثُمَّ أَوْرَدَ تَحْمِيدَاتِ الْقُرْآنِ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ للَّه مُعِزِّ الْإِسْلَامِ بِنَصْرِهِ، وَمُذِلِّ الشِّرْكِ بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النِّعَمِ بِشُكْرِهِ، وَمُسْتَدْرِجِ الْكَافِرِينَ بِمَكْرِهِ، الَّذِي قَدَّرَ الْأَيَّامَ دُوَلًا بِعَدْلِهِ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ، وأفاض على العباد من طله وهطله، [الّذي] أظهر دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، الْقَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ فَلَا يُمَانَعُ، وَالظَّاهِرِ عَلَى خَلِيقَتِهِ فَلَا يُنَازَعُ، وَالْآمِرِ بِمَا يَشَاءُ فَلَا يُرَاجَعُ، وَالْحَاكِمِ بِمَا يُرِيدُ فَلَا يُدَافَعُ، أَحْمَدُهُ عَلَى إِظْفَارِهِ وَإِظْهَارِهِ، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت الْمُقَدَّسَ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَأَوْضَارِهِ، حَمْدَ مَنِ استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، شَهَادَةَ مَنْ طَهَّرَ بِالتَّوْحِيدِ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى بِهِ رَبَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الْإِفْكِ، الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِهِ مِنْهُ إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وسلّم وَعَلَى خَلِيفَتِهِ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلِ مَنْ رَفَعَ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ شِعَارَ الصُّلْبَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ذِي النُّورَيْنِ جَامِعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبى طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ» .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْعِظَةَ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَغْبِيطِ الْحَاضِرِينَ بما يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَ فَضَائِلَهُ وَمَآثِرَهُ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَثَانِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَثَالِثُ الْحَرَمَيْنِ، لَا تُشَدُّ الرَّحَالُ بَعْدَ الْمَسْجِدَيْنِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ الْخَنَاصِرُ بَعْدَ الْمَوْطِنَيْنِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَلَّى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ يَوْمَ التَّلَاقِ، وَهُوَ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَقْصِدُ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم.
قلت: ويقال إن أول من أسسه يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْخَلِيلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث