بل اختطفته المنون والأقدار عن بلوغ الأمل والأوطار. ولما قضى الرشيد حجه أَحْضَرَ مِنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، وَأَحْضَرَ وَلِيِّيَ الْعَهْدِ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ وَعَبْدَ اللَّهِ الْمَأْمُونَ. وَكَتَبَ بِمَضْمُونِ ذَلِكَ صَحِيفَةً، وَكَتَبَ فِيهَا الْأُمَرَاءُ والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك [1] ، وَأَرَادَ الرَّشِيدُ أَنْ يُعَلِّقَهَا فِي الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ فقيل: هذا أمر سريع انتقاضه. وكذا وقع كما سيأتي. وقال إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ فِي الْكَعْبَةِ:
خَيْرُ الْأُمُورِ مَغَبَّةً ... وَأَحَقُّ أَمْرٍ بِالتَّمَامِ
أَمْرٌ قَضَى أَحْكَامَهُ الرَّ ... حْمَنُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم.
أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أبو ريان فِي رَمَضَانَ مِنْهَا. وَحَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَاضِي كرمان عن مائة سنة.
وَهُوَ سَلْمُ، بْنُ عَمْرِو بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْخَاسِرُ لِأَنَّهُ بَاعَ مُصْحَفًا وَاشْتَرَى بِهِ دِيوَانَ شِعْرٍ لامرئ القيس، وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فِي صِنَاعَةِ الأدب [2] . وقد كان شاعرا منطقيا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، كما قال في موسى الْهَادِي:
مُوسَى الْمَطَرْ ... غَيْثُ بَكَرْ
ثُمَّ انْهَمَرْ ... كم اعتبر
ثم فتر ... وَكَمْ قَدَرْ
ثُمَّ غَفَرْ ... عَدْلُ السِّيَرْ
بَاقِي الْأَثَرْ ... خَيْرُ الْبَشَرْ
فَرْعُ مُضَرْ ... بَدْرٌ بَدَرْ
لِمَنْ نَظَرْ ... هُوَ الْوَزَرْ
لِمَنْ حَضَرْ ... وَالْمُفْتَخَرْ
لمن غبر.
وذكر الخطيب أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ مِنَ الْمُجُونِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ تَلَامِيذِ بَشَّارِ ابن بُرْدٍ، وَأَنَّ نَظْمَهُ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ بِشَّارٍ، فمما غلب فيه بشارا قوله:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ ... وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الْفَاتِكُ اللَّهِجْ
فَقَالَ سَلْمٌ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمًّا ... وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الْجَسُورُ
فَغَضِبَ بشار وقال: أخذ معاني كلامي فَكَسَاهَا أَلْفَاظًا أَخَفَّ مِنْ أَلْفَاظِي. وَقَدْ حَصَلَ له من الخلفاء والبرامكة نحوا مَنْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دينار وديعة عند أبي الشمر [3] الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوما الرشيد فَأَطْرَبَهُ فَقَالَ لَهُ: سَلْ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المؤمنين أسألك شيئا ليس فيه من مالك شيء، ولا أرزأوك شيئا سواه. قَالَ: وَمَا هُوَ؟
فَذَكَرَ لَهُ وَدِيعَةَ سَلْمٍ الْخَاسِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا. فَأَمَرَ لَهُ بِهَا [4] . وَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.