هِرَقْلِيَّةٍ فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ، فَقُلْتُ:
لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ بألف دينار هرقلية، ثم قال له: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي وَجَّهَ بِهِ لِحَسَّانَ؟ قُلْتُ: خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَدَعَا حِسَانًا فدفعها إليه، فأخذها وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ معشر ... لم يغرهم آبَاؤُهُمْ بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا ... كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ ... إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي ... وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ المذموم
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أن معاوية يقطعنى أرض البثينة فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا، وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا، وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الفرج ابن الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ السَّنَةَ، - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ- وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ بَعْدَ سنة أربعين من الهجرة.
ففيها كان شَتَّى مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ، وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَرَدَّ إِلَيْهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَصْطَفِي أَمْوَالَهُ الَّتِي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ لِيَهْدِمَهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إلى بذلك، ولو كتب إليك في دار لَفَعَلْتَهُ. فَقَامَ سَعِيدٌ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مروان ويصطفى ماله، وذكر أنه لم يزل يحاجف دُونَهُ حَتَّى صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك، ثناه ذلك عن سعيد، وَلَمْ يَزَلْ يُدَافِعُ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَهُ مُعَاوِيَةُ فِي دَارِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ. وَفِيهَا