هُمَا فَتَيَا دَهْرٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمَا ... نَهَارٌ وَلَيْلٌ يَلْحَقَانِ التَّوَالِيَا
إِذَا مَا هُمَا مَرَّا بِحَيٍّ بِغِبْطَةٍ ... أَنَاخَا بِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الدَّوَاهِيَا
وَهَذَا يَقْتَضِي بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ قَدَمَاتِهِ الثَّلَاثِ إِلَى الشَّامِ، أَمَّا الْأُولَى وَهِيَ هَذِهِ فَإِنَّهُ سَارَ مِنَ الْجَابِيَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا ذَكَرَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ أَمَّا رِوَايَةُ غير أهل الشام فهي أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ الشَّامَ مَرَّتَيْنِ وَرَجَعَ الثَّالِثَةَ مِنْ سَرْعٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَهُمْ يَقُولُونَ دَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ إِلَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَتِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ عَنْ مَكَانِ الصَّخْرَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أذرع من وَادِي جَهَنَّمَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا فَهِيَ ثَمَّ. فَذَرَعُوا فَوَجَدُوهَا وَقَدِ اتَّخَذَهَا النَّصَارَى مَزْبَلَةً، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ بِمَكَانِ الْقُمَامَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى فَاعْتَقَدَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ. وَقَدْ كَذَبُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ هَذَا كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خطئهم فِي ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا حَكَمُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، طَهَّرُوا مَكَانَ الْقُمَامَةِ وَاتَّخَذُوهُ كَنِيسَةً هَائِلَةً بَنَتْهَا أَمُّ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْمَدِينَةِ المنسوبة اليه، واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية. وَأَمَرَتِ ابْنَهَا فَبَنَى لِلنَّصَارَى بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَوْضِعِ الْمِيلَادِ، وَبَنَتْ هِيَ عَلَى مَوْضِعِ الْقَبْرِ فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مَكَانَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ مَزْبَلَةً أَيْضًا، فِي مُقَابَلَةِ مَا صَنَعُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ.
فَلَمَّا فَتَحَ عُمَرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَحَقَّقَ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ، أَمَرَ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكُنَاسَةِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَنَسَهَا بِرِدَائِهِ، ثُمَّ اسْتَشَارَ كَعْبًا أَيْنَ يَضَعُ المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وَرَاءِ الصَّخْرَةِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ. يَا ابن أم كعب ضارعت اليهود: وَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فِي مُقَدَّمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ وَأَبِي مَرْيَمَ وَأَبِي شُعَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَذَكَرَ فَتَحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو سِنَانٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِكَعْبٍ: أَيْنَ تُرَى أَنْ أَصَلِّيَ؟ قَالَ إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصخرة وكانت الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ لَا وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ وَكَنَسَ النَّاسُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى رِجَالِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ، مَا رَوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ مُبَوَّبًا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ تَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ دمشق،