بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ وَامْرَأَتُهُ، وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ رَجُلَانِ كَانَا قَدْ أَسْلَمَا وَمَعَهُمَا كِتَابٌ مِنَ الصِّدِّيقِ بِالْأَمَانِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمَا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ أَبِي رِهْمِ بْنِ قِرْوَاشٍ، قَتَلَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَالْآخَرُ لَبِيدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَتَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمَا الصِّدِّيقَ وَدَاهُمَا، وَبَعَثَ بِالْوَصَاةِ بِأَوْلَادِهِمَا، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ فِي خَالِدٍ بِسَبَبِهِمَا، كَمَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ: كَذَلِكَ يَلْقَى مَنْ يساكن أَهْلَ الْحَرْبِ فِي دِيَارِهِمْ، أَيِ الذَّنْبُ لَهُمَا فِي مُجَاوَرَتِهِمَا الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مَنْ سَاكَنَ الْمُشْرِكَ في داره» وفي الحديث الآخر «لا ترى نَارُهُمَا» أَيْ لَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الثِّنْيِ وَالزُّمَيْلِ وَقَدْ بَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالْأَعَاجِمِ فَلَمْ يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا انبعث بخبر، ثُمَّ بَعَثَ خَالِدٌ بِالْخُمُسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَقَدِ اشْتَرَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ هَذَا السَّبْيِ جَارِيَةً مِنَ الْعَرَبِ وَهِيَ ابْنَةُ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيِّ، فَاسْتَوْلَدَهَا عُمَرَ وَرُقَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَقْعَةِ الْفِرَاضِ وَهِيَ تُخُومُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ شَهْرَ رَمَضَانَ مُفْطِرًا لِشُغْلِهِ بِالْأَعْدَاءِ، وَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ أَمْرُ خَالِدٍ وَمَصِيرُهُ إِلَى قُرْبِ بِلَادِهِمْ، حَمُوا وَغَضِبُوا وَجَمَعُوا جموعا كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والتمر، ثُمَّ نَاهَدُوا خَالِدًا فَحَالَتِ الْفُرَاتُ بَيْنَهُمْ فَقَالَتِ الرُّومُ لِخَالِدٍ: اعْبُرْ إِلَيْنَا، وَقَالَ خَالِدٌ لِلرُّومِ: بَلِ اعْبُرُوا أَنْتُمْ، فَعَبَرَتِ الرُّومُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ قِتَالًا عَظِيمًا بَلِيغًا، ثُمَّ هَزَمَ الله جموع الروم وتمكن المسلمون من اقتفائهم، فَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفِرَاضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَذِنَ بِالْقُفُولِ إِلَى الْحِيرَةِ، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَأَمَرَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَسِيرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَأَمَرَ شَجَرَةَ بْنَ الْأَعَزِّ أَنْ يَسِيرَ فِي السَّاقَةِ، وَأَظْهَرَ خَالِدٌ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي السَّاقَةِ، وَسَارَ خَالِدٌ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَدَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَارَ إلى مكة في طريق لم يسلك قبله قط، ويأتى لَهُ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ لِغَيْرِهِ، فَجَعَلَ يَسِيرُ مُعْتَسِفًا عَلَى غَيْرِ جَادَّةٍ، حَتَّى انتهى إلى مكة فأدرك الحج هذه السنة، ثم عاد فأدرك أمر السَّاقَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْحِيرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِحَجِّ خَالِدٍ هَذِهِ السَّنَةَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا بعد ما رَجَعَ أَهْلُ الْحَجِّ مِنَ الْمَوْسِمِ، فَبَعَثَ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي مُفَارَقَتِهِ الْجَيْشَ وَكَانَتْ عُقُوبَتَهُ عِنْدَهُ أَنْ صَرَفَهُ مِنْ غَزْوِ الْعِرَاقِ إِلَى غَزْوِ الشَّامِ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ: يَقُولُ لَهُ: وَإِنَّ الْجُمُوعَ لَمْ تَشْجُ بِعَوْنِ اللَّهِ شجيك، فليهنئك أَبَا سُلَيْمَانَ النِّيَّةُ وَالْحُظْوَةُ، فَأَتْمِمْ يُتَمِّمِ اللَّهُ لَكَ، وَلَا يَدْخُلَنَّكَ عُجْبٌ فَتَخْسَرَ وَتُخْذَلَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُدِلَّ بِعَمَلٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ الْمَنُّ وهو ولى الجزاء.