اللَّهُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَلَامَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَفَضَحَهُمْ أَشَدَّ الْفَضِيحَةِ وَأَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا يُتْلَى وَبَيَّنَ أَمْرَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي التَّفْسِيرِ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَقَالَ تَعَالَى انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 9: 41- 42 ثُمَّ الْآيَاتِ بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 9: 122 فَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ وَقِيلَ لَا فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى رَجَبٍ- يَعْنِي مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ- ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ. فَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وعبد الله بن أبى بكر وعاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا كَلٌّ يُحَدِّثُ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ فِي الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ. فَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ «يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الأصفر؟» فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا رَجُلٌ بِأَشَدَّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ» فَفِي الْجَدِّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ 9: 49 وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشكافى الْحَقِّ وَإِرْجَافًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانزل الله فِيهِمْ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 9: 81- 82. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيِّ- وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومَ- يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ، فَفَعَلَ طَلْحَةُ فاقتحم الضحاك