قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) (?) فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَعْهُودٌ لَفْظِيٌّ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ الْبُسْتَانُ.
قَالُوا: وَذِكْرُ الْهُبُوطِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) (?) الْآيَةَ وَإِنَّمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ أُمِرَ أَنْ يَهْبِطَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سألتم) (?) الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (?) الْآيَةَ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
قَالُوا: وَلَا مَانِعَ بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً عَنْ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ ذَاتِ أَشْجَارٍ وَثِمَارٍ وَظِلَالٍ وَنَعِيمٍ وَنَضْرَةٍ وَسُرُورٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى (إِنَّ لك أن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) (?) أَيْ لَا يُذَلُّ بَاطِنُكَ بِالْجُوعِ وَلَا ظَاهِرُكَ بِالْعُرْيِ.
(وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (?) أَيْ لَا يَمَسُّ بَاطِنَكَ حَرُّ الظَّمَأِ وَلَا ظَاهِرَكَ حَرُّ الشَّمْسِ.
وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الملايمة.
فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا أُهْبِطَ إِلَى أَرْضِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالْكَدَرِ وَالسَّعْيِ وَالنَّكَدِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ وَاخْتِلَافِ السُّكَّانِ دِينًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا وَقُصُودًا وَإِرَادَاتٍ وَأَقْوَالًا وَأَفْعَالًا كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (?) وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) (?) ومعلوم انه كَانُوا فِيهَا لَمْ يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ.
قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ مَنْ حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرِ الْخَلَفِ مِمَّنْ يُثْبِتُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ كَمَا سَيَأْتِي إِيرَادُهَا فِي مَوْضِعِهَا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.