كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، فَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ نَالَ الْعِزُّ عِزًّا فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَةً هَائِلَةً، وَمَنَاصِبَ وَتَدَارِيسَ كبار، ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ وَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَيُقَالُ لَهُ مَا قُلْتُهُ فِي بَعْضِ المراثي: فكأنك قد أُعلمت بالموت حتى * تزودت له مِنْ خِيَارِ الزَّادِ وَحَضَرَ عِنْدِي فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ شَوَّالٍ الْبَتْرَكُ بِشَارَةُ الْمُلَقَّبُ بِمِيخَائِيلَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْمَطَارِنَةَ بِالشَّامِ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ جَعَلُوهُ بَتْرَكًا بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الْبَتْرَكِ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ الْبَتَارِكَةُ إِلَّا أَرْبَعَةً بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَبِالْقُدْسِ وَبِأَنْطَاكِيَّةَ وَبِرُومِيَّةَ، فَنُقِلَ بَتْرَكُ رُومِيَّةَ إلى اسطنبول وفي الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
لَكِنِ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَنْ أَنْطَاكِيَّةَ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْمُقَامِ بِالشَّامِ الشَّرِيفِ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ ملتهم إلى صاحب قبرص، يَذْكُرُ لَهُ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ والنكال والجناية بسبب عدوان صاحب قبرص عَلَى مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأَحْضَرَ لِي الْكُتُبَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَلِكِ إِسْطَنْبُولَ وَقَرَأَهَا عَلَيَّ مِنْ لَفْظِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا.
وَقَدْ تَكَلَّمْتُ مَعَهُ فِي دِينِهِمْ وَنُصُوصِ مَا يَعْتَقِدُهُ كل من الطوائف الثلاثة، وَهُمُ الْمَلْكِيَّةُ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ وَمِنْهُمُ الْإِفْرِنْجُ وَالْقِبْطُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ، فإذا هو يفهم بعض الشئ، وَلَكِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ حِمَارٌ مِنْ أَكْفَرِ الْكُفَّارَ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ بَلَغَنَا اسْتِعَادَةُ السلطان أويس بن الشَّيْخِ حَسَنٍ مَلِكِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لِبَغْدَادَ مِنْ يد الطواشي مرجان الذي كان نائبه عليهما، وامتنع منطاعة أُوَيْسٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ
فَهَرَبَ مَرْجَانُ وَدَخَلَ أُوَيْسٌ إِلَى بَغْدَادَ دُخُولًا هَائِلًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ أَمِيرَ مِائَةٍ مُقَدَّمَ أَلْفٍ، وَعَلَى نِيَابَةِ يَلْبُغَا فِي جَمِيعِ دَوَاوِينِهِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَعَلَى إِمَارَةِ الْبَحْرِ وَعَمَلِ الْمَرَاكِبِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ بِجَمْعِ جَمِيعِ النَّشَّارِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ وَتَجْهِيزِهِمْ لِبَيْرُوتَ لِقَطْعِ الْأَخْشَابِ، فَسُيِّرُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ رَمَضَانَ وَهُوَ عَازِمٌ على اللحاق بهم إلى هنالك والله الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ أُتْبِعُوا بِآخَرِينَ مِنْ نَجَّارِينَ وَحَدَّادِينَ وَعَتَّالِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ مِنْ رُكَّابِ الْحَمِيرِ يُنْزِلُونَهُ وَيَرْكَبُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْبِقَاعِ، وَسَخَّرُوا لَهُمْ مِنَ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ خبطة عَظِيمَةٌ وَتَبَاكَى عَوَائِلُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ، وَلَمْ يُسْلَفُوا شَيْئًا مِنْ أُجُورِهِمْ، وَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يُسْلَفُوهُ حَتَّى يَتْرُكُوهُ إِلَى أَوْلَادِهِمْ.
وَخَطَبَ بُرْهَانُ الدِّينِ المقدسي الحنفي بجامع يلبغا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ وَمَرْسُومِ نَائِبِ صَفَدَ استدمر أَخِي يَلْبُغَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَدِّهِ