وَتَسْمِيَةِ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاجْتِيَاحِ اسْتِيفَاءً وَاسْتِدْرَاكًا لِأَغْرَاضٍ انْتَهَزْتُمْ فُرَصَهَا مُخْتَلَسَةً مِنْ بَرَاثِنِ لَيْثٍ بَاسِلٍ، وَأَنْيَابِ أَسَدٍ مَهِيبٍ، تُنْفِقُونَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْتُمْ أُمَنَاؤُهُ وَثِقَاتُهُ فَتُمِيلُونَ رَأْيَهُ إِلَى هَوَاكُمْ، وَتَمْزُجُونَ بَاطِلَكُمْ بِحَقِّهِ، فَيُطِيعُكُمْ وَأَنْتُمْ لَهُ عَاصُونَ، وَيُوَافِقُكُمْ وَأَنْتُمْ لَهُ مُخَالِفُونَ وَالْآنَ قَدْ بدل الله سبحانه بِخَوْفِكُمْ أَمْنًا، وَبِفَقْرِكُمْ غِنًى، وَبِبَاطِلِكُمْ حَقًّا، وَرَزَقَكُمْ سلطانا يقيل العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أَصَرَّ، وَلَا يَنْتَقِمُ إِلَّا مِمَّنِ اسْتَمَرَّ، يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ وَهُوَ يُرِيدُهُ مِنْكُمْ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْجَوْرِ وَهُوَ يَكْرَهُهُ لَكُمْ، يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى فَيُخَوِّفُكُمْ مَكْرَهُ، وَيَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى وَيُرَغِّبُكُمْ فِي طَاعَتِهِ فَإِنْ سَلَكْتُمْ مَسَالِكَ خُلَفَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَأُمَنَائِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَإِلَّا هَلَكْتُمْ وَالسَّلَامُ ".
وَوُجِدَ في داره رقاع مختومة لَمْ يَفْتَحْهَا سَتْرًا لِلنَّاسِ وَدَرْءًا عَنْ أَعْرَاضِهِمْ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ عَشْرَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا، مِنْهُمُ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ الَّذِي بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، ولقب بالمستنصر بالله، وغسله الشيخ مُحَمَّدٌ الْخَيَّاطُ الْوَاعِظُ، وَدُفِنَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورُ بْنُ الظَّاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّاصِرِ أَحْمَدَ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَبُوهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ ثَالِثَ عَشَرَ (?) رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، اسْتَدْعَوْا بِهِ مِنَ التَّاجِ فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا وَأَبْهَاهُمْ مَنْظَرًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ * وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْقَمَرْ وَفِي نَسَبِهِ الشَّرِيفِ خَمْسَةَ عَشَرَ خَلِيفَةً، مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ آبَائِهِ وَلُوا نَسَقًا، وَتَلَقَّى هُوَ الْخِلَافَةَ عَنْهُمْ وِرَاثَةً كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وهذا شئ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، وَسَارَ فِي النَّاسِ كَسِيرَةِ أَبِيهِ الظَّاهِرِ فِي
الْجُودِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَبَنَى الْمَدْرَسَةَ الْكَبِيرَةَ الْمُسْتَنْصِرِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُبْنَ مَدْرَسَةٌ فِي الدُّنْيَا مِثْلُهَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتَمَرَّ أَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ أَبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ خُطِبَ لِلْإِمَامِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَنُثِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَنْشَدَ الشُّعَرَاءُ الْمَدَائِحَ وَالْمَرَاثِيَ، وَأُطْلِقَتْ لَهُمُ الْخِلَعُ وَالْجَوَائِزُ، وَقَدِمَ رَسُولٌ من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الْوَزِيرِ ضِيَاءِ الدِّينِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ الْأَثِيرِ، فِيهَا التَّهْنِئَةُ وَالتَّعْزِيَةُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بليغة.