مَنْشُورًا بِذَلِكَ، وَوَقَفَ عَلَى الْجَامِعِ قَرْيَةً مِنْ قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ الصالح العابد؟ عمر الملا، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ دَعْوَةٌ فِي شَهْرِ الْمَوْلِدِ، يحضر فيها عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَيَحْتَفِلُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صَاحِبَهُ، وَكَانَ يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي الْمَوْصِلِ بِجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَلِهَذَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ كُلُّ مَسَرَّةٍ، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إلى دمشق فأقطعه إقطاعاً حسناً، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَسِيحِ هَذَا نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ يُقَالُ إِنَّ لَهُ كَنِيسَةً فِي جوف داره، وكان سئ السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة، وَلَمَّا دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ كَانَ الَّذِي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وَحِينَ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ خَرَجَ إِلَيْهِ
ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إِلَى الْبَلَدِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ حَتَّى قَوِيَ الشِّتَاءُ فَأَقَامَ بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بِهَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَقُولُ لَهُ: طَابَتْ لَكَ بَلَدُكَ وَتَرَكْتَ الْجِهَادَ وَقِتَالَ أَعْدَاءِ اللَّهِ؟ فَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى السفر، وما أصبح إلا سائراً إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أَبِي عَصْرُونَ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى سِنْجَارَ وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ نُوَّابًا وَأَصْحَابًا.
وَفِيهَا عَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ قُضَاةَ مِصْرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِيعَةً، وَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِهَا لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ قُضَاةً شَافِعِيَّةً، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ (?) ، وَاشْتَرَى ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدين عمر داراً تُعْرَفُ بِمَنَازِلِ الْعِزِّ، وَجَعَلَهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا الرَّوْضَةَ وَغَيْرَهَا.
وَعَمَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَسْوَارَ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَارَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَرَكِبَ فَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بنواحي عسقلان وغزة وضرب قَلْعَةً كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَيْلَةَ، وَقَتَلَ خَلْقًا كثيراً من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعَ شَمْلُهُ بِهِمْ بَعْدَ فُرْقَةٍ طَوِيلَةٍ.
وَفِيهَا قَطَعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَذَانَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ كُلِّهَا، وَشَرَعَ فِي تَمْهِيدِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَلَى المنابر.
وممن توفي فيها من الاعيان.