وفي هذه السنة حج بالناس الْمَهْدِيُّ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ ابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ وَخَلْقًا مِنَ الأمراء منهم؟ توب بْنُ دَاوُدَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْخَادِمِ فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ فَأَحْسَنَ الْمَهْدِيُّ صِلَتَهُ وَأَجْزَلَ جَائِزَتَهُ، وَفَرَّقَ الْمَهْدِيُّ في أهل مكة مالاً كثيراً جداً، كان قَدْ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة أَلْفِ دِينَارٍ وَمِنَ الْيَمَنِ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَشَكَتِ الْحَجَبَةُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْكَعْبَةِ أَنْ تَنْهَدِمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الكساوي، فأمر بتجريدها، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى كَسَاوِي هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الملك وجدها من ديباج ثخين جداً، فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخع (?) وَكَسَاهَا كُسْوَةً حَسَنَةً جِدًّا، وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْتَفْتَى مالكاً في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك: دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك معلبة.
فتركها على ما هي.
وَحَمَلَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ الثلج إلى مكة، وكان أَوَّلَ خَلِيفَةٍ حُمِلَ لَهُ الثَّلْجُ إِلَيْهَا.
وَلَمَّا دخل المدينة وسَّع الْمَسْجِدَ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ فَأَزَالَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَا كَانَ زَادَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ مالك: إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه.
وَتَزَوَّجَ مِنَ الْمَدِينَةِ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ، وانتخب من أهلها خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِهَا لِيَكُونُوا حَوْلَهُ حَرَسًا بِالْعِرَاقِ وأنصاراً وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا غَيْرَ أُعْطِيَاتِهِمْ وَأَقْطَعَهُمْ أَقْطَاعًا معروفة بهم.
وفيها توفي الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ الْوَرْدِ الْعَتَكِيُّ الْأَزْدِيُّ أَبُو بِسِطَامٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
رَأَى شُعْبَةُ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَرَوَى عَنْ أُمَمٍ مِنَ التَّابعين (?) وحدَّث عَنْهُ خَلْقٌ (?) مِنْ مَشَايِخِهِ وَأَقْرَانِهِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُلَقَّبُ فِيهِمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ إِمَامُ المتقين، وكان في غاية الزهد والورع وَالتَّقَشُّفِ وَالْحِفْظِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُ مَا عُرِفَ الْحَدِيثُ بِالْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا حُجَّةً صَاحِبَ حَدِيثٍ.
وَقَالَ وَكِيعٌ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ لِشُعْبَةَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ بِذَبِّهِ عَنْ حَدِيثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ صالح بن محمد بن حرزة: كَانَ شُعْبَةُ أوَّل مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرِّجَالِ تبعه يَحْيَى الْقَطَّانُ ثُمَّ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مَالِكٍ، ولا أشد