ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فِيهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ مَقْتَلُ عبد الرحمن بن الأشعث فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فلمَّا انْصَرَفَ مرَّ بِدَيْرٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا، فَدُعِيَ فَقَالَ: يَا شَيْخُ هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ لَهُ فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ، مَنْ يَقُمْ في سبيله يُصْرَعُ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ ثمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ يَفْتَحُ بِهِ على النَّاس، قال: فتعرفني له قال: قد أخبرت بك.
قال: أفتعرف مآلي؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، قَالَ أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ لَا أَدْرِي، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ؟ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا وَاسْتَدْعَى بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ وَيَزِيدَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَيَزِيدَ بْنَ دينار وليسوا هناك، وَمَا هُوَ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ.
فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شرفهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدراً وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ.
فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ عَلَى عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أخبره به ذلك الشيخ الكتابي، فجاء البريد بكتاب فيه قَدْ أَكْثَرْتَ فِي شَأْنِ يَزِيدَ فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (?) ، فَغَزَا بلاد عبس وغيرها وغنم